د. محمد عبدالله العوين
أرثي لحال صديق عزيز انقلبت حياته الضاجة الصاخبة فجأة إلى سكون وخمول أقرب إلى الموات.
انطفأ الرجل!.
ذهب منه ذلك الزهو الذي لا يفارق قسمات وجهه، وغاب عنه ذلك الشعور العميق بالثقة في النفس الذي لا يفارق كلماته.
صديقي المتمكن القوي المندفع نحو الحياة حل محله شخص آخر لا أكاد أعرفه ولم ألتق به من قبل.
كنت أخشى نفوذه، أهاب قراراته، أشعر بالقلق عليه من مسؤولياته العملية الضخمة، وكنت أيضا أشعر حين أقترب منه بأنني أكتسب شيئاً من عنفوانه وتفاؤله وقدرته على مقارعة الصعاب والقفز على تحديات النجاح.
كانت الجلسة معه جرعة دواء من الإحباط ودفعة أمل إلى الأجمل.
متوهج الوجه، محمر الوجنتين، منعم الخدين، تنعكس على قسمات وجهه حظوظه الطيبة التي لا تنقطع.
كان لا يشعر براغ البتة.
لم يكن لديه وقت للراحة ولا لتضييع ساعة فيما لا جدوى منه؛ كجلسات الاستراحات اليومية التي يدمن عليها كثيرون من موظفيه، وحين يعودون إلى عملهم متأخرين كان يمطرهم بغير قليل من اللوم والتأنيب ممزوجين بشيء من الممازحة والتأديب.
الحق أنه كان مثالاً للرجل الناجح بكل المقاييس.
حقق أعلى درجة في بناء أسرة نموذجية.. أبناؤه وبناته متفوقون في دراستهم، مستقيمون في سلوكهم.. منزله أو ربما قصره الصغير تحفة فنية، انضباطه في تحقيق واجباته العائلية يمثل قدرة فائقة على التوفيق بين ضغوط وظيفته المرموقة ومتطلبات أسرته التي يشعر أنها وظيفة مقدسة أيضاً.
وفجأة.. التقيت به بعد غياب سنة!..
كانت تلك السنة التي لم أره فيها سنة غير عادية، هي الزمن الصعب الفاصل بين حياتين أو مرحلتين أو عمرين أو شخصيتين.
سنة التقاعد..
لم أكد أعرفه!..
لا.. مستحيل أن يكون هذا صديقي القديم الناجح المحظوظ الممتلئ آمالاً المتفائل بالمستقبل الذي لا يكل ولا يمل ولا يتأفف من شيء.
أين ذلك التوهج والتأجج والحيوية وإشراق الوجه وبريق العينين؟..
أين تلك الروح الجميلة المبدعة للنكتة الخاطفة للمعنى؟
أين تورد الخدين؟ واكتمال الأناقة؟ وتدفق الكلمات؟ وسرعة الخاطر؟.. وعبارات الترحيب والمجاملة اللطيفة؟..
لا.. ليس هو الذي كنت أجلس معه اكتساباً لعدوى الإيجابية والآمال الجميلة.
حدثني بتثاقل وكلمات مغتصبة يخرجها من جوفه إخراجاً:
اشتغلت أربعين عاما، وزدت عليها خمساً بالتمديد، أعطيت الوظيفة عمري وأعطتني النجاح والمال والعلاقات الجيدة والأصدقاء والتأثير والنفوذ، شاب شعر رأسي في مقاعد الإدارة التي تنقلت فيها، وكنت أحسب أن كل مرتبة أعلو بها ستبقى معي وسيتواصل فيضها علي، كنت أعيش الوهم!..
اليوم انفض السامر، لا أصدقاء، لا نفوذ، لا شفاعات، لا مال!..
أعيش الفراغ يا صديقي وكأنني بل وزن بل بلا وجود، أنا غير موجود ولا يشعر بي أحد بعد أن كان يشعر بي كل أحد.