أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كاد العلماء أن يتفقوا على أن المراد بالمقسم به في سورة النازعات بالملائكة في قوله سبحانه وتعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [سورة النازعات/ 5].. ثم اختلفوا في طوائف الملائكة عليهم السلام أيهم المراد؟: فمنهم من قال: المراد الموكلة بقبض الأرواح عندما تقبضها وتنزعها، وتسبح بها، وتسبق بها.. ومنهم من جعل النزع لملائكة العذاب، وجعل النشط لملائكة الرحمة، وجعل السبح والسبق والتدبير لطوائف أخرى من الملائكة في غير قبض الأرواح.
قال أبو عبدالرحمن: والذي أختاره حسبما تدل عليه بلاغة السياق: أن الله أقسم بطوائف من الملائكة الكرام ذوات تفاوت في سرعتها؛ فطائفة تنزع في حركاتها، وطائفة أسرع تنشط نشطاً، وطائفة أسرع تسبح سبحاً، وطائفة أسرع؛ لأنها تسبق كل من مر ذكره، وطائفة خامسة تميزت بتدبير ما جعل الله لها تدبيره من أمور عظيمة دل على عظمتها تنكير المفردة في قوله سبحانه وتعالى (أمرا)؛ ولعلها أسرع الطوائف الخمس؛ لأن حكمة الله في خلقها اقتضت أن تكون أسرع؛ لتميزها بتدبير أمر عظيم؛ ولقد انتقل سياق القرآن الكريم من العطف بالواو إلى العطف بالفاء في السابقات والمدبرات؛ ليدل ذلك على الترتيب في التفاوت كقولك: خذ الأكمل فالأفضل؛ لأن السابقات أعظم من السابحات، والمدبرات أعظم من السابقات؛ وهذا المعنى من معاني الفاء؛ وقد ذكر ذلك (الزمخشري) في كشافه، وتناقله المؤلفون في حروف المعاني كـ(المرادي) في (الجنى الداني)؛ ولقد ترجح لي هذا التأويل من عدة وجوه: أولها أنني لم أجد ما أرجحه في كل ما وقفت عليه من أقوال المفسرين: إما لأن الصفات الخمس في سورة النازعات لا تتجه على مقسم به واحد إلا بتكلف؛ ولا تكلف في حملها على الملائكة.. وإما لأن المقسم به في نصوص بعض المفسرين أكثر من واحد؛ وهذا لا يتفق مع السياق.. وثانيها أن هذا التأويل في أصله لا في تفصيله هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-؛ وهم أعلم بالمراد ممن جاء بعدهم إلا أن يستجد برهان حسي.. وثالثها أن الصفات الثلاث الأولى ذكرت صفات المقسم به، ولم تذكر مفعولاً وقعت عليه أفعال أصحاب تلك الصفات؛ فصار الظاهر أن هذه الصفات هي نفسها فعل صاحب الصفة.. أي أنها تنزع في نفسها، وتنشط في نفسها، وتسبح في نفسها؛ فالقول إنها تنزع أرواح بني آدم، أو تسبح بها، أو تنشطها: زيادة تأويل لا يدل عليه الظاهر.. والصفتان الأخيرتان دلتا على أن لصاحبهما فعلاً واقعاً على غيره؛ فسبقها سبقاً لغيرها؛ لأنه لا يتم السبق إلا بمسبوق، ولا يكون التدبير إلا بفعل من المدبر واقع على غيره.. ورابعها أن النزع والنشط والسبح درجات متفاوتة في الحركة من ناحية السرعة؛ فلما ذكر السبق في الدرجة الرابعة وعلمنا أن السبق لا يكون إلا بمسبوق ولم نجد في السورة مسبوقاً إلا ذوي حركات النزع والنشط والسبح: علمنا أن المقسم به طوائف تتفاوت في السرعة.. وخامسها أن المدبرات أمرا، هم الملائكة بإجماع السلف، ودل على ذلك نصوصثيرة من الشرع قرآناً وسنة، ولما كانت الفاء دالة على الترتيب في التفاوت: علمنا أن الأقسام الأربعة السابقة طوائف من الملائكة أعلاها رتبة الطائفة الخامسة، وهي المدبرات أمراً؛ لأنه يحكم بالتفاوت مع اتحاد الجنس، وبهذا علمنا أن المقسم به شيء واحد.
قال أبو عبدالرحمن: وها هنا موضوع عظيم الأهمية؛ وهو سقوط المصحف الكريم في الأرض إذا كان القارئ يقرأ آيات القرآن الكريم متفاعلاً معها عن الملائكة الكرام، أو عن وعد الله، أو عن وعيده سبحانه وتعالى.. إلخ؛ فيسقط المصحف منه؛ فيقبله، ويضمه إلى صدره؛ فهذا عندهم بدعة؟!
قال أبو عبدالرحمن: وما هو والله قسما برا ببدعة، بل هو ذو أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون قصة الذي أخذ أوراقا من المصحف مبعثرة ممزقة ربما تدوسها الأرجل خطأ؛ فطيبها وحفر لها في الجدار، وسترها بملء الكف من الطين.
قال أبو عبدالرحمن: وكم من مرة يسقط مني المصحف، فأقبله، ثم أضمه إلى صدري؛ فأجد في قلبي طمأنينة وخشوعا وفرحا؛ ولعل القوم رأوا في أرض الكنانة الحبيبة.. أرض العرب والمسلمين تصوفا، فحكموا على أن كثرة تقبيلهم المصحف بدعة؛ وما هو ببدعة، بل هو راحة ونشاط وخشوع؛ وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.