د.محمد بن عبدالرحمن البشر
حكام إيران جعلوا المناورة في صلب سياستهم الخارجية، فقد تمكنوا في فترات مضت من النجاح، وفشلوا في فترات أخرى، ودخلوا في حرب مع العراق بعد مناورات عديدة، وخسروا في تلك الحرب الكثير، ووافق الخميني مرغماً على إيقاف الحرب قائلاً: «إني أتجرع السم».
ناوروا حتى حصلوا على الاتفاق النووي، وكان ما كان، واليوم يحاولون المناورة والعقوبات تتوالى، والشركات تنصرف عن العمل في إيران، والحصار الاقتصادي يزيد، والنقد الأجنبي لدى إيران يكاد ينضب، والمصارف تمتنع عن التعامل مع إيران خشية على مصالحها، وكل شيء يسير ضدها.
أخذ خطوتين ربما تكونان جزء من المناورة، أو لها مضاعفة التحصيب عدة أضعاف، وثانيها التلميح بالتخريب المباشر أو عبر وسطاء، وكذلك جس نبض هنا وهناك، وقد تستمر في ذلك، لأنها تعتقد أن العالم يحاول جاهداً تلافي وقوع حرب في المنطقة، لكنها ربما تتوهم إن علق في ظنها أن العالم لن يقدم على عمل ما، إذا ما تجاوزت الحدود واستمرت فيما تفعل في تخريب في المنطقة، ومحاولة مد نفوذها إلى كل بقعة من الأرض العربية.
يبدو أن إيران لم تبن إستراتيجيتها بشكل واقعي يتماشى مع ما هو سائد؛ وهو وجود قطب واحد في هذا العالم الفسيح متمثلاً في أمريكا والكتلة الغربية، والحلفاء في الشرق والغرب، وأن هذا القطب يسيطر سيطرة كبيرة في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية والتقنية الحديثة، وأن استخدام أي أداة من الأدوات المتاحة في يده، سيكون كفيلاً بإلحاق الضرر بإيران حتى ولو لم يدخل في حرب معها.
إيران تعلم أن التعامل المالي العالمي بالدولار، وأن المصارف والشركات لا يمكنها التضحية بمصالحها لأجلها، وهي تعلم أن الشركات غير قادرة على العمل في إيران لأنها لا تستطيع تسيير أمورها المالية والفنية دونهم.
دعونا نفترض أن إيران استمرت في مناوراتها سنوات محدودة قادمة، فماذا يمكن لها أن تجني، سيكون اقتصادها في أسوأ حال، وسيعاني الشعب الإيراني مزيداً من شظف العيش والبؤس والحرمان، وفي الغالب فإن ثورات الشعوب منبعها لقمة العيش.
إيران تعلم أنها لن تستطيع المساس بالملاحة العالمية لأن ذلك يشكل خطراً على العالم بأسره، لكنها تجس النبض هنا وهناك، لتقيس مقدار رد الفعل، وهي تعلم أن قوة عسكرية هائلة تجثم على سطح البحر تراقب التطورات عن كثب، وأن بإمكانها الضغط على الزناد في لحظة الحسم، وما يحير حقاً في الإستراتيجية الإيرانية هو مقدار ما تعتقد أن الشعب الإيراني سيجنيه من كل تلك السياسات مهما طالت المدة، فهناك أجيال قد عاشت في ظل هذا النظام لم تر ما يجعلها تعيش مثل الجيل المعاصر لها في دول أخرى.
عندما تدعم إيران الحوثيين، أو حزب الله، أو المجموعات التابعة لها في سوريا أو البحرين أو دول أخرى، فماذا يا ترى تطمح إليه من دعم لهم؟ ربما يكون مد أذرعه للحصول على مزيد من الهيمنة، ولكن ماذا بعد الهيمنة، فقد هيمنت على الجنوب لبنان عبر حزب الله، فماذا حصلت عليه جراء ذلك، فإسرائيل في مكانها، لم تتزحزح عن سنتيمتر واحد، وأموالها التي أنفقت على الحزب ذهبت إلى غير رجعة بدلاً من إعمار إيران، وإسعاد الشعب الإيراني، وكذلك الحال في دول أخرى.
إن كانت تظن إيران أنها ستكون ذات تأثير في مجريات الأمور في المنطقة أكثر من الولايات المتحدة، فهي تعيش في وهم لا أظن أن حكام إيران قد صبوا به، وإن كان غير ذلك فما هو إذاً..؟ التخريب للتخريب، أو السعي في نشر أيدلوجيا للاستفادة منها في النفوذ السياسي، ربما لكن قد تسلك وسائل أخرى، أقل تكلفة لو كانت تلك الأيدلوجيا ذات جذب كافٍ.
في الحقيقة علمتني الأيام ألاّ أحكم على تصرفات البشر بافتراض المنطق والمصالح في تلك التصرفات، لكن هناك عوامل كثيرة قد لا تتفق مع المنطق، فهناك الكثير من بني البشر من تبحث عن تفسير لتصرفهم، فلا تجد تفسيراً منطقياً، وأخيراً تدرك أن أغلب التصرفات البشرية تنبع من واقع نفسي لمتخذ القرار قد ترسخ لديه وراثياً، أو اكتسبه من البيئة المحيطة، أو تطور مع تطور الأحداث، وهكذا الدول التي يقودها بأيّ حال مجموعة من البشر، أو شخص بعينه.
ليس من الضروري أيّ نجد أنفسنا في تفسير ما تفعله إيران طبقاً للمنطق، لكن قد نفسرها جزئياً إلى أنهم سلكوا درباً فأصبح راسخاً في الأنفس، فكان الفعل بغض النظر عن المصلحة القريبة أو البعيدة.