د. فهد صالح عبدالله السلطان
لم أستطع أن أستوعب -كما هو الحال لدى الكثير من المواطنين- بعض الطرح الإعلامي لدى محطات إعلامية محسوبة على المملكة، والذي يتناقض وكل الأعراف والمبادئ الإعلامية في مختلف المجتمعات على اختلاف ثقافاتها ودساتيرها.
جرت العادة أن يساهم الإعلام المحلي والإعلاميون المحليون في أي بلد في تعزيز الهوية الوطنية والدستور الوطني، وتأصيل الحضارة ورفع مستوى الاعتزاز في التاريخ وفي القيم الاجتماعية، حتى في حالات التاريخ المشوه للدول فإن الإعلام المحلي لها يعمل على طرح الأحداث بصورة إيجابية مضيئة .
على سبيل المثال، صوَّر إعلام الدول التي استعمرت شعوباً مستضعفة في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، صوَّر الاستعمار على أنه عمل إنساني هدف إلى بناء حضارات لتلك الدول وسعى إلى تنمية شعوبها وإنقاذ المستضعفين فيها. وعلى الجانب الاجتماعي يصوِّر إعلام بعض الدول الغربية الإباحية وشرعنة أنواع من المخدرات وما تفضي إليه من أمراض اجتماعية وبدنية على أنها مظهر حضاري ومؤشر على الحرية والديمقراطية... الخ.
غزت القوات الأمريكية فيتنام في العقد السادس والسابع من القرن الماضي وتم استخدام أسوأ وسائل الإبادة البشرية بما في ذلك استخدام مبيد حشري عالي الخطورة عرف بـ (اجنت اورانج) لإهلاك المحاصيل؛ حتى لا يتمكن الفيتناميون من الاختباء خلفها ولا زال الفيتناميون يعانون من آثارها حتى يومنا هذا.. وتم طرح الحدث وما زال يطرح حتى يومنا هذا على انه عمل إنساني ودفاعي وذلك على كافة الأصعدة الإعلامية الأمريكية سواء في البرامج التلفزيونية أو في أفلام هوليوود، كما صورتها - على سبيل المثال لا الحصر - أفلام البطل الأمريكي رامبو والذي يطرح شخصية المحارب الأمريكي على انه بطل جاء لينقذ المستضعفين من المجتمعات الأخرى وليدافع عن وطنه!!
في المقابل فقد انتابت الحيرة كثيرا من المواطنين والمحبين لنا من المقيمين حول ما تقوم بطرحه بعض المحطات المحسوبة علينا وهدفها من ذلك الطرح.. لم يستطع الكثير أن يتفهم طرح فتوحات المسلمين وبناء الحضارة في الأندلس على أنها غزو مفلس لم يخلف أي حضارة، وخطأ يجب الاعتذار من فعله، وأن تاريخنا ومجتمعنا الغني بالقيم الإسلامية العظيمة كالوفاء والكرم والعفة كان مشبعاً بالفساد والخيانة، وأن الإلحاد عقيدة يتم إبراز معتنقيها كرموز ثقافية.
لم يستطع الكثير أن يستوعب اللغة المشتركة بين تلك المحطات على تشويه تاريخنا والتشكيك في الثوابت الدينية والترويج لحرية الرأي في المعتقد وانتقاص القيم الاجتماعية المثلى.. لم أستطع أن أستوعب طرح هذا الخذلان في شهر رمضان الذي أُنزل فيه دستورنا العظيم (القرآن)، وتم فيه نصرة المسلمين وانتصارهم في غزوة بدر (غزوة الفرقان) التي فصلت بين الحق والباطل، وقامت على أثرها أعظم حضارة في تاريخ البشرية.
لم أستطع أن أستوعب تركيز هذا الطرح في هذا الشهر الذي يتابع فيه معظم السعوديين بل والمسلمون في أرجاء المعمورة محطاتنا الإعلامية، تواقين في ذلك لأخبار هذه الدولة العظيمة التي يرون فيها مظلةً وأُمَّاً وقبلةً ومصدراً للعلم والمعرفة والمثل العليا باعتبارها قبلة المسلمين ومصدر الإشعاع.. الغريب في الأمر أن هذه الطروحات تمت على أيدي إعلاميين يُشهد للكثير منهم بالوطنية والمهنية.. لكن ربما لم يوفقوا في اختيار الضيوف أو الموضوعات أو النصوص.
لقد كفت هذه المحطات أعداءنا جهود الإساءة لنا كمجتمع وكأنها تريد أن ترسل رسالة لقرابة ملياري مسلم بأن عليكم البحث عن الآخرين إذا ما أردتم البحث عن نور الإيمان الحقيقي والإشعاع الروحي والمعرفة والمثل العليا والعلم الشرعي الصحيح وعن منهج الاعتدال منهج أهل السنة والجماعة. المتتبع لطرح تلك المحطات لثقافتنا وحضارتنا وهويتنا يلاحظ أنها تميل إلى التخلي عن أقوى أوراقنا الحضارية ومصدر قوتنا، وإبرازنا للعالم بأننا لا نملك هذه القوة أو على الأقل بأننا لا نرغب في تبنيها، وهذا غير صحيح البتة ولا يمت للواقع بصلة.. وهو في نظري خطأ إعلامي فادح!! إذا ما استدركناه فسندفع ثمنه باهظاً في قادم الزمان.
كنت أتمنى أن يعزز إعلامنا الفخر بعقيدتنا الراسخة وبوطننا العظيم وبمجتمعنا الفطري السليم، والافتخار بأن أرضنا مهبط الوحي وقبلة لقرابة ملياري مسلم (ثلث سكان المعمورة وهي ميزة لم ولن ينافسنا عليها منافس) .. وبأننا أصل العروبة ومصدر الإيمان الصحيح ومركز الإشعاع الروحي.. والاعتزاز بوحدتنا الوطنية وبولائنا لقيادتنا وبترابطنا الأسري وبقيمنا الاجتماعية. وأن تهدف وتعمل تلك المحطات على تأصيل هويتنا وتعزيز الأعمال الإنسانية الإيجابية التي تقوم بها حكومتنا في البعد الخارجي وتعزيز موقعنا العالمي في الخارطة السياسية، مستثمرة في ذلك كثرة المشاهدين لمحطاتنا في شهر رمضان المبارك!!!
الشيء المؤلم أننا بدلا من استثمار كثرة متابعينا في شهر رمضان المبارك لطرح رسائلنا الإيجابية ونقاط القوة لدينا، يستثمرها بعض الإعلام المحسوب علينا بطرح النقائص بل وتشويه تاريخنا وانتقاص مسارنا ومنهجنا وإضعاف هويتنا!!.. أليس ذلك مناقضاً للعرف ومثيراً للعجب؟؟
بقي أن أعترف بأنني لست من المحسوبين على الإعلام ولا من أصحاب الاختصاص فيه، ولكنني أعتقد أن على وزارة الإعلام مراجعة سياستها الإعلامية بشكل جذري (غير تقليدي)، وصياغة سياسة ثقافية وإعلامية تستجيب لمتطلبات الفترة وتنسجم ومعطيات التنمية الوطنية التي نعيشها، وتعزز هويتنا الوطنية وتؤصل موقعنا الريادي الديني والسياسي والاقتصادي في عالم يتلاطم بالصراعات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية.. اللهم هل بلغت؟!