د. فوزية البكر
لعل إحدى بركات شهر رمضان لعام 1440 الموافق 30 مايو 2019 هو إصدار وثيقة مكة التاريخية من قبل أكثر من 1200 شخصية عالمية قدمت من 139 دولة كمشاركة في المؤتمر الدولي حول قيم الوسطية والاعتدال الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في مكة في المملكة العربية السعودية في رمضان لتمثل الوثيقة الصادرة من المؤتمر دستورًا تاريخيًا يهدف إلى تحقيق السلام وحفظ قيم الوسطية والاعتدال في العالم كله وعلى الأخص في عالمنا الإسلامي.
والمتأمل لبنود الوثيقة والقيم التي تضمنتها ليذهل حقًا كيف أن السعودية الجديدة ليست فقط مشغولة ببناء نفسها في الداخل والخارج رغم الحرب الضروس عليها من الأعداء القريبين والبعيدين لكنها أيضًا معنية بإعادة صياغة وتأكيد القيم والمفاهيم الأساسية التي جاء بها الإسلام ونزلت على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وأكدها في وثيقة المدينة المنورة التاريخية التي كتبها فور هجرته للمدينة فيما يعرف بصحيفة المدينة وذلك في عام 623 م وتضمنت 52 بندًا، منها 27 نصًا أكدت على حسن الجوار بين كافة الجماعات المتعايشة سلميًا آنذاك في المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود وأسست لعلاقة المسلمين السلمية والطيبة بهم وأكدت على حقهم في إقامة شعائرهم كما يرغبون وحقهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم وأموالهم مع التعهد بالمشاركة مع المسلمين في الدفاع عن المدينة.
أهمية وثيقة مكة التاريخية الجديدة التي تم إعلانها نهاية رمضان لهذا العام هو في الرسائل المعلنة والضمنية التي تضمنتها بنودها التي تؤكد على العدل والسلامة والمحبة والاعتدال وذلك في محاولة لتصحيح ما دمره الإسلام السياسي بجنونه اللا إنساني حتى ارتبط الإسلام بالإرهاب فلم يسلم مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض من الأذى المادي والمعنوي وتدهورت علاقة العالم بالمسلمين بسبب قلة ضالة.
تأتي هذه الوثيقة لتصحيح بعض من هذه الأخطاء وإعلام العالم بالطبيعة الخيرة والسلمية للدين الإسلامي والمسلمين حيث تضمنت بنود الوثيقة السبعة عشرة قيمًا ومبادئ كلها تستحق التأمل خاصة وهي مكتوبة بلغة حضارية جدًا تؤكد على أهم مبادئ حقوق الإنسان التي تطالب بها حضارات العالم كله مثل دعم قيم التنوع الديني والثقافي وإن المسلمين جزء من هذا العالم وأن البشر متساوون في إنسانيتهم وينتمون إلى أصل واحد وأن الاختلاف في العقائد والأديان سنة كونية!
أجد في الوثيقة المهمة لغة جديدة كلية على الطرح المتعارف عليه الذي نسمعه يتردد في كثير من المؤسسات العلمية والدينية سواء داخل السعودية أو خارجها وهذا يعني ضرورة أن تقوم هذه المؤسسات التي يتردد عليها المسلمون في كل يوم سواء عبر الذهاب لمدارسهم وجامعاتهم أو عبر الصلاة في مساجدهم بتجديد خطابهم الديني ولغة ومفاهيم خطبهم وكتبهم وشروحاتهم بما يتواءم مع الطرح الخطير والمجدد لوثيقة مكة التاريخية.
أكدت الوثيقة أيضًا على ضرورة الدعوة إلى الحوار الحضاري وأن المسلمين مثل غيرهم من الأمم والحضارات قادرون على إثراء الحضارة الإنسانية مثلما فعلوا دائمًا عبر تاريخهم الحضاري الطويل الذي شوهه اليوم مجازفات وممارسات بعض المتطرفين التي أدت إلى خلق ظاهرة الإسلام فوبيا (الخوف من الإسلام والمسلمين) كما أكدت الوثيقة على ضرورة احترام المواثيق الدولية وعدم التدخل في شؤون الدول ونبذ مطامع الهيمنة السياسية والاقتصادية.
ولم تنس الوثيقة حظ المرأة فأكدت على ضرورة تمكينها ورفض تهميش دورها الذي جاء في سياق كون هذه المرأة تمثل نصف المجتمع وصلاحها ورضاها عن نفسها وعن محيطها يعني تمكين وحفظ الأسرة بحفظ حقوق المرأة والأطفال وبكونها إنسانًا لا يختلف عن الرجل في أهمية الحق الإنساني وإن اختلف معه في الوظائف والواجبات.
يجب علينا كسعوديين أن نكون حقًا فخورين بتمكن دولتنا من جمع هذا الحشد الكبير وإقامة هذا المؤتمر العالمي في العشر الأواخر من رمضان حيث تكون مكة في أقصي ازدحامها لكنها دولتنا السعودية الفتية التي لا تكل ولا تتعب من العمل المتواصل صعودًا إلى المستقبل وفي سبيل تغيير وجه التاريخ.
يبقي أن على وزارة التعليم دورًا أساسيًا في تضمين مناهجها وأنشطتها سواء في التعليم العام أو الجامعي روح وقيم هذه الوثيقة وعمل التطبيقات المدرسية التي تمكن الطلاب من الانفتاح والفهم للحضارات الأخرى والأديان المختلفة واحترامها ولن يحدث ذلك إلا عن طريق التفاعل المباشر وإشهار القبول الحقيقي لكل البشر والديانات والحضارات.
وزارة الثقافة والإعلام تحمل على عاتقها أيضًا دورًا كبيرًا في تبني قيم ومواد هذه الوثيقة التاريخية التي أجزم أن العمل بها سيحسن كثيرًا الصورة الذهنية للمملكة في عيون العالم كما سيجعل العالم بشكل عام أكثر سلمًا وأمنًا.
حفظ الله هذا الوطن آمنًا ومستقرًا وأبيًا.