تتسابق الشركات التجارية في تحسين خدماتها، ومحاولة كسب رضا وولاء عملائها في جميع المجالات؛ لذا استثمرت في تطوير البرامج والتوظيف لقياس ورصد ملاحظاتهم ونقدهم، والتعرف عليها، ومحاولة علاج وتلافي شكاواهم. كذلك نهجت الكثير من الدوائر والشركات الحكومية التي تقدم خدمات للعموم محاولة رصد رضا مراجعيها والمتعاملين معها، وتطوير خدماتهم، وتلافي ما يزعج عملائهم، وأصبحت منصات التواصل الاجتماعي تعج بجميع أنواع النقد والتنظير والأحكام على الخدمات والأشخاص.
وجاءت البرامج الحوارية باستضافة الفنانين أو اللاعبين أو الإعلاميين، وتحولت إلى تنظير وآراء ونقد على كل الأصعدة، بل إن بعض الضيوف في البرامج الحوارية تحمسوا وأصبحوا يُكذِّبون النظريات العلمية والظواهر الطبيعية، ويحكمون على التاريخ والشعراء والكتّاب واللاعبين.. ولم يسلم من نقدهم أو تنظيرهم أحد، وكأن هذا الممثل الكوميدي أو المذيع أو نجم السوشيال ميديا أو صاحب المهارة الكروية تحول بقدرة قادر إلى عالِم ومنظِّر ومحلل لكل شيء دون حد أدنى من المنطق أو احترام عقول الآخرين.. لكنَّ هناك سمة في هذه البرامج الحوارية (إلى حد ما)، هي تبادل الألقاب بين المذيع وضيوفه بطريقة متصنعة، وفي بعض الأحيان (سمجة)، جعلت المذيع يتغاضى عن الكثير من (السقطات) والنقد غير الموضوعي مع ضعف في التحضير والسيطرة على النقاش.
فما نشهده من الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي حوَّل (أغلبنا) إلى ناقد (بتاع كله)، نسرح ونمرح في التنظير والنقد (وقصف الجبهات) على جميع الأصعدة، وأصبحت ردود «لا أعلم وما أدري وليس عندي خبر» غير مستساغة أو موجودة في قاموسنا (إلى حد ما)، وصرنا موجودين في كل حدث.
- فإذا كانت مباراة كرة قدم فهو المدرب والمعلق والحكم الذي يفهم في قوانينها وتعديلاتها، بل يستطيع أن يحلل النوايا.
- وعند كل حدث سياسي أو عسكري تراه الخبير الأمني والاستراتيجي ومحلل النظريات والمؤامرات والمنظمات الدولية، وملمًّا بتاريخ الحروب.
- ومع كل فصل أو تغيُّر مناخي يتحول إلى خبير أرصاد جوية وتنبؤات، بل وراصد تاريخي للمتغيرات، وأحيانًا يتحدث عن ظواهر طبيعية تحدث كل مئة سنة مرة واحدة (ولكنه يصفها وكأنه شاهد عيان في كل مرة تحدث).
- وعند نزول أو صعود الأسهم يتحول إلى خبير اقتصادي ومتنبئ بالعلاقات والأنظمة والقوانين الاقتصادية.
- حتى الطب والدواء والاكتشافات العلمية لم تسلم من النقد وإصدار الأحكام وإبداء وجهات النظر.
مع إيماني بأن لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه وقناعاته ووجهات نظره، لكن بعيدًا عن النقد من أجل الاختلاف مع الآخرين فقط؛ فلا يعيب الإنسان مهما بلغ من العلم والعمر أن يقول (لا أعلم).. وتاريخنا الإسلامي مليء بقصص العلماء الذين كانت إجاباتهم في مسائل واستفسارات دينية (لا أعلم)، بل إننا نسمع عبارة (من قال لا أعلم فقد أفتى). ولنؤمن جميعًا بأنه بما أن البشر يختلفون في الشكل واللون والحجم فحتمًا يختلفون في الرأي؛ لذا لنتبع قاعدة ذهبية في النقد، إنها وجهة نظر تحتمل الخطأ والصواب، وأنه لا يعيبنا أن نمدح أو نجمِّل آراء وأفعال الآخرين.. فالنقد ليس فقط رؤية الجانب السيئ، بل العكس في نظري، فإن التعامل الإيجابي والمدح والثناء والشكر محفزة لبذل المزيد من العطاء والإنتاجية.. فلنتعود جميعًا على أن يكون مفهوم النقد لدينا من أجل تحفيز الآخرين، ودفعهم للفخر بما يقومون به بعيدًا عن (تكسير المجاديف).. ولنحمل عدوى حميدة في زرع التفاؤل والشكر والحمد، واكتشاف الجوانب الإيجابية لكل حدث، مع النقد باللين والهدوء.