د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
سياسة «الغموض البناء» constructive ambiguity التي تتبعها أمريكا في منطقتنا من زمن طويل أحالت القراءة المستقبلية لأحداث منطقتنا إلى أمر في غاية الصعوبة. فلا شك أن نظرة الولايات المتحدة لمجريات أمور المنطقة تتقاطع مع نظرتنا لها إلا أنها في بعض المحاور تختلف عنها. وهذا أمر طبيعي جدًا فالمصالح في السياسة أقوى من التحالفات. ولدى أمريكا قوة هائلة في المنطقة تهدد بها بشن حرب مدمرة، لكنها في الوقت ذاته تطلق تصريحات ذات طابع سياسي بحت برغبتها في إرغام إيران للإذعان لمفاوضات تخرجها من الحصار الخانق على اقتصادها، وهذا أمر تفضله دول المنطقة أيضاً. وكل ما تفعله أمريكا في مثل هذه الظروف هو التعهد لحلفائها بأنها سوف تشعرهم بقراراتها المصيرية بمدة كافية قبل الشروع في أي تحرك ليكونوا على علم وعلى أهبة الاستعداد.
في ظل هذه التجاذبات يمكن النظر للأمور من خلال المعطيات والخيارات الأساسية المتوافرة فقط، على الرغم من أنه لا يمكن التنبؤ تماماً بما يمكن أن تؤول إليه لأنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يقدم عليه نظام غير عقلاني كالنظام الإيراني الحالي. والمؤكد فقط هو أن الوضع خطير جدًا. فقد دفع الطرفان الأمور لما يسمى مجازًا «شفير الهاوية»، ولا أحد منهما يحب الانزلاق فيها. فالحرب خيار مكلف ولكن في الوقت ذاته تشكل إيران خطراً أكبر محدقاً بالمنطقة فيما لو تركت تعبث بها. واتضح ذلك بدون أدنى شك في شهيتها للتوسع وتأسيس ميلشيات عميلة مسلحة بأسلحة خطرة، وهذه في حكم العرف الدولي سياسة خرقاء متهورة قد تدفع ببعض هذه الميلشيات لاتخاذ قرارات أحادية الجانب لاستخدام هذه الأسلحة. والعالم الغربي والشرقي بما فيهم بعض حلفاء إيران، يتساءلون عما سيؤول إليه الحال لو طورت إيران أسلحة نووية، أو جرثومية؟ ومؤكد أن لديها اليوم مخزوناً من الأسلحة الكيماوية التي استخدمها بعض حلفائها.
الحرب في هذه اللحظة خطيرة جدًا ولا أحد يستطيع التنبؤ بمداها الجغرافي أو الزمني، أو مدى أضرارها ولذا تبقى الخيار الأخير. فإيران، لو قارناها بالعراق على سبيل المثال، الذي تطلبت حرب القضاء على نظامه تحالفاً دولياً ضخماً، وشن حربين على مدى عقدين من الزمان، بلد ضخم تتجاوز مساحته ضعف مساحة العراق، وسكانها أكثر من 90 مليون أي ثلاثة أضعاف سكان العراق، ولها حدود شاسعة مفتوحة تصعب السيطرة عليها. لكنها في المقابل تتكون من شعوب خليطة ضاق أكثرها ذرعًا بالسلطة المركزية الفارسية، وضاق معظم سكانها بسياسات الملالي غير العقلانية. وقد تشعل إيران ذاتها الحرب في حال شارفت أوضاعها على الانهيار التام. غير أن النظام الإيراني يعرف أن دخوله للحرب سيعني نهايته لأنه سيدخل حرب غير متكافئة، قد تلحق الضرر فيها بالآخرين لكنها ستنتهي حتمًا باحتلال إيران أو على الأقل إخضاعها للسيطرة التامة مما يعني تحملها لسنوات أخرى طويلة من الحصار لدفع تعويضات الحرب، ولهذا وذاك قد ترى أن المفاوضات، ولو تحت الضغط، خيارًا أفضل من الحرب.
غير أنه من الواضح أن أمريكا ومن ضمن الشروط التي وضعتها للتفاوض تمنح اعتبارًا أكبر لوقف البرنامج النووي والصواريخ الباليستية من أمور أخرى تتعلق بتهديد إيران لجيرانها عبر ميليشياتها وحشودها وليس عبر أسلحتها الاستراتيجية. وهناك احتمال مستبعد ولكنه وارد بأن يتم التفاوض مع إيران بالمساومة على بعض الأمور المتعلقة بجيرانها. ولو تم الضغط والتأكيد على الإدارة الأمريكية بضرورة منح أولوية للجم الميلشيات الإيرانية في العراق واليمن ولبنان كشرط أساس لرفع الحصار، وكذلك لجم تدخلها في شئون دول المنطقة كالبحرين والكويت والمملكة التي توجد فيها مكونات شيعية، لاتضح كثير من الغموض الذي يحيط بالمواقف حالياً، فتصريحات ترامب وإدارته حول هذه الأمور أقل وضوحًا من تصريحاته حول البرنامج النووي والصواريخ الباليستية.
مأساة حقيقة أن يوجد في منطقتنا نظام خارج العصر والتاريخ مدججًا بالسلاح كالنظام الإيراني الحالي يعتمد على رؤية دينية خرافية تتعلق بعودة المهدي، وتمدد يعتمد على الطائفية، قد يدفعانه للحرب في أي وقت وفي أي اتجاه. هذا أمر واضح لجيران إيران المباشرين ولكنه قد لا يكون على الدرجة ذاتها من الوضوح للدول الكبرى التي تحاول الاستفادة بشكل «براقماتي» من أي مصير قد تؤول إليه أحوال المنطقة. والأفضل لنا هو البدء بالممكن المعقول وهو قصقصة أجنحة إيران في المنطقة وجعلها تنزف حتى انتهاء نظامها، فنحن رغم كل الأمور لا نريد ضررًا لأي شعب في المنطقة بما فيها الشعب الإيراني، لكن سلامتنا وسلامة أراضينا وشعوبنا لا مساومة عليها.