الشيخ الإمام عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين علاّمة وعلامة أعجوبة عصره، وفريدة دهره، شيخ معتم جليل، هامته في الثمانين، وهمته في العشرين، الله دَرّه:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وسعت كتاب الله لفظاً وآية
وما ضقت عن آي به وعظات
ما أشبه الليلة بالبارحة هو القائل في تأبين ورثاء عالم جليل ماهيته:
(كتب الله الموت على الصغير والكبير والشريف والطريف.. ولكن لا شك أن المصيبة بالعلماء كبيرة، وذلك أن بفقدهم يفقد العلم الذي هو ميراث الأنبياء) وكأني به عليه شآبيب الإحسان والغفران يرثى نفسه التي تحشرج بين جنبيه، هو عالم طرازي أثير شرب العلم بملء شدقيه، وعشقه عشقاً عجيباً، فصال فيه وجال، وبرز وأبرز، وعلم وتعلم، وقد بلغ عشقه أعظم من الصبابة.
هو البحر من أي النواحي أتيته/ فدرته الياقوت والجود ساحله وبين ناظرىّ كتاب تفسير، يكتبه فلذة كبد بصير، كسر القاعدة: (أزهد الناس في العالم أهله) بل قال: (أثرى الناس في العالم أهله) الكتاب يصنفه المصنفون فيمن ألف عن أبيه، في مقدمته كلام أخاذ مقنع سلسبيل: (لئن كنت سبقت غير إلى جمع سيرة الوالد -رحمه الله- وترك الناس ذلك لي إحساناً منهم للظن بي، فقد سبقني الكثير من محبيه إلى تسطير خواطرهم، ذكر مواقفهم معه -رحمه الله- وفاءً لشيخهم ورداً لجميله، وتقديراً لمكانته) والسؤال الطارح نفسه ما الذي يحكيه الكتاب؟ والجواب على لسان الابن المؤلف -رعاه الله-: (هذه السيرة تحكي كل ما استطعت جمعه من حياة الوالد -رحمه الله- سواء الأحداث والوقائع أو المواقف والمناهج أو الرؤى والتوجهات)، وأصدق شاهد على جلالة مقام الشيخ، مدائح رجالات الزمان ونوانع الأنام، لفضيلته على رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك الهمام سلمان بن عبدالعزيز -طيّب الله أثره وثرياه-، ومن الأقران والمريدين الذين أحبوه حباً جماً، فذرفت القلوب، وأخضلت القروح، سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ الجليل/ عبدالعزيز بن عبدالله آل شيخ، والشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان والدكتور الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي -مدَّ الله في مدادهم-، والكتاب برمته أخاذ، ونيراته خلاب، من ذلك وسم مبين عنونته (إضاءات) وهو شهادات فخرية أظهرت بصدق معالم سماحة الشيخ العالم العلامة عبدالله بن جبرين -غفر الله له-.. يحوي الكتاب ثمانية أقسام ويه التالية: القسم الأول: البيئة الخصبة، القسم الثاني: التكوين المسدد، القسم الثالث: العطاء المتجدد، القسم الرابع: الشخصية الفذة، القسم الخامس: العقيدة والعبادة، القسم السادس: شيخ الأمة، القسم السابع: مناهج متقنة، القسم الثامن: الرحيل، ويحوي كل فصل من الفصول السابقة عناوين جانبية مهمة، يعسر تتبعها لتفرعها وكثرتها وهي توحي بموسوعية الكتاب وكمه وكيفه، وفصول الكتاب مانعة جامعة ومنها من وجهة نظري، مبحث من مباحث القسم الرابع: الشخصية الفذة وهو: الوقت في حياة الشيخ وحرصه عليه أشد الحرص وتقسيمه له أدق التقسيم:
دقات قلب بالمرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
وهذا التقسيم حول يوم الشيخ عليه وابل الغفران إلى دولاب حيّ متحرك، لا يملّ ولا يكلّ ولا يفتر، هو عزيمة ماضية، وشكيمة قاهرة، تتداعى عنها الهمم بل تخور، وقد أحيا الشيخ الجبرين بعنايته الشديدة بوقته، صفحات خالدة من سير علماء الدين، وجهابذة التاريخ، مثل -ابن الجوزي- عليه رحمة الله وسديد مغفرته، فقد حكى في كتابه الحافل -صيد الحناطر، جوانب من عنايته بوقته، ففي مجلس سروره لخاصة الناس كان يقوم ببري أقلام الكتابة، حتى لا يفسح الوقت سدى في المرح والفرح والهجر والمرج، وعلك -أيها القارئ- الحصيف- تعطي مؤلف الكتاب برهة من وقتك، ليصف لك تكتيك الشيخ في رسم برنامج يومه.. فالعلم والعمل عنده سواء مقترنان اقتران تزاوج واتفاق، لا تضاد بينهما ولا اختلاف، فيومه يبدأ من بزوغ الفجر مشرقاً بالهمة، محملاً بالعزيمة، ففي جميع أيام الأسبوع دروس في المسجد، تستمر قرابة الساعتين أو أكثر، عدا يوم الأحد، وفي ضحى أيام الأسبوع يعود لبيته حيث ينام ساعة تقريباً ثم يتناول إفطاره، ويبدأ في تصحيح الكتب حتى يحين أذان صلاة الظهر، ثم يؤدي الصلاة في المسجد المجاور لبيته، وبعدها يجلس في مكتبه ليجيب عن الفتاوى التحريرية التي تصل إليه من أنحاء العالم، ويظل حتى قرب العصر، ثم يعود لبيته ليسد رقعه، وبعد صلاة العصر يلقي كلمة قصيرة في المسجد، ثم يعود قافلاً لبيته ويفتح بابه على مصراعيه للناس، ويظل حتى يحين أذان المغرب، وبعد الصلاة يكون لديه دروس علمية، وهذه عادته، منذ مدة طويلة، وبعد صلاة العشاء لديه دروس أسبوعية، وفي بعض الأيام يدعى الشيخ لوليمة فيجيب أو يعود لبيته فيمضي باقي ليله في قراءة وتصحيح بعض الكتب ويظل مستيقظاً حتى منتصف الليل، قرابة الساعة الثانية عشرة، وكان هذا دأبه عليه -رحمه الله- في غالب أيامه، وكان النعاس يغشى عينيه ولكنه يقاومه فاتحاً إياهما ليكمل قراءته، ويتم كتابته، وحتى لا يدع للكسل مجالاً في دولاب وقته، وبعد هذا اليوم الحافل بالعلم والعمل معاً يختتمه بالذهاب إلى فراشه، ثم تبدأ حياته الأخرى في تهجد الليل، فقد كان عليه الرحمة والعفو والغفران لا تفوته صلاة الليل، لا في الحضر ولا في السفر، وقد ورد في الكتاب ما نصه وماهيته الآتي: (ويذكر طلابه ومرافقوه في الأسفار أنه كان يصلي الليل ولو كان السفر شاقاً،....... ويذكر الأخ عبدالله الحوطي رحلته معه إلى المجاردة فيقول: في يوم من أيام الرحلة ذهبنا إلى إحدى الرى ليلقي فضيلته محاضرة في إحدى المدارس، وكانت تبعد عن مقر إقامة الشيخ ما يزيد على أربعين كيلومتراً، وكان معظم الطريق وعراً جداً، فشد انتباهي لما عدنا إلى مقر إقامة الشيخ عند الساعة الثانية عشرة ليلاً أن الشيخ جلس في غرفته يتابع القراءة في الكتاب الذي كان يقرأ فيه في بداية رحلته، مع أنه كان مرهقاً إرهاقاً شديداً بسبب الجهد الذي بذله في ذلك اليوم، وبعد ذلك توقف عن القراءة وشرع في صلاة التهجد، وكان الوقت نحو الساعة الثانية ليلاً).
نفس عصامٍ سودت عصاماً
وعلمته الكر والإقداما
وصيرته بطلاً هماماً
حتى علا وجاوز الأقواما
والشيخ عليه شآبيب العفو من أهل الليل، وكان يحب هذه العبادة كثيراً، وكان يقوم فيه قياماً لا يستطيع أن يصفه واصف، ولا يقدر على نعته ناعت، ويتجلى حرصه الشديد على هذه العبادة في ليالي الصيف القصيرة الطول، بشهادة مشائخ ثقات عدول عاصروه وسبروه، وكتبوا فيه عليه -رحمه الله- أجمل التواصيف.
أخيراً: فقد أمتعنا المؤلف أمتعه الله، وآنسنا بسيرة غيرية طويلة جداً، تقص الأثر، وتأتي بالخير، أتى بها بالأخضر واليابس والشارد والوارد، والقلة والجمة، حق وحقيقة أنها صورة فوتغرافية دقيقة كل الدقة، واضحة كل الوضوح، مبينة مفصحة كل الإبانة والفصاحة، تعكس الأصل وتصور الشموخ والهمة والإرادة والطموح والإباء والعزيمة التي شكلت شخصية عالم الأمة، وإمام الهمة سماحة الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، جبر الله فراقه، وسد ثلمته بعلمه، وسقاه كوثر النعيم، وأسكنه العليين ومن أرخ لمؤمن فكأنما أحياه.
** ** **
سماحة الشيخ العالم العلامة الفهامة الدكتور/ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين -عليه من الله شآبيب العفو والرحمة والرضوان-
تأليف: الابن البار.. فضيلة الدكتور/ عبدالرحمن بن عبدالله الجبرين
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى- *
* عنوان التواصل: ص.ب 54753 الرياض 11524
Hanan.alsaif@hotmail.com