د.عبدالله بن موسى الطاير
مقارنة سريعة بين الشارعين السوداني والجزائري يعطي انطباعاً سريعاً أيضاً عن التمايز بين المشرق والمغرب العربيين في التعاطي مع المشكل السياسي في البلدين. الجزائريون يواصلون المسيرات في أوقات محددة وأماكن معينة ويشبهون في ذلك حركة السترات الصفراء في فرنسا. فاعلية الجزائريين رغم سلمية حراكهم أسقطت العهدة الخامسة للرئيس السابق بوتفليقة، وهم حالياً يديرون ما بعده بالكثير من التؤدة باحترام كامل للجيش.
الثوار السودانيون يكررون اعتصام مسجد رابعة العدوية، حيث جاشت العاطفة وتغلبت المشاعر على الواقعية السياسية، وسلّم المعتصمون آذانهم وعقولهم لقناة الجزيرة، ولمن تربصوا طويلاً بمصر، واستحث القوم هنا وهناك أدبيات المفاصلة باستنساخ الثورات الاستئصالية التي تنسف النظام السابق بكل مكوناته. ولا أدري هل سيجد الثوار في مشروعهم رموزاً لم تتعلّم في عهد البشير ونظامه، ولم تعمل في حكومته، ولم تتثاقف تحت حمايته الأمنية، ولم تتاجر في أسواقه، ولم تمارس السياسة في كنف نظامه. ولذلك فإن الكثير من رموز السودان ورجالاته مختبئون الآن خشية التصنيف والاستهداف في هذه الأجواء المحتقنة.
السودانيون اليوم عسكراً ومعارضةً يتلقون النصائح والدعم والتأييد من معسكرين متقابلين، أحدهما غربي يدفع باتجاه الدولة المدنية والحريات والآليات الديمقراطية على حساب الأمن والاستقرار. والآخر يهتم بالأمن والاستقرار أولاً ومن ثم تأتي الدولة المدنية على مهل. الدبلوماسيون الغربيون المعنيون بالشأن السوداني يخاطبون شوارعهم وقواعدهم الانتخابية عبر السودان، مؤكدين على سرعة انتقال السلطة إلى حكومة مدنية بغض النظر عن مصير الدولة والشعب السوداني.
إذا تسلّمت حكومة مدنية الحكم في السودان وفتحت الباب على مصراعيه لاجتثاث كل من له علاقة بالنظام السابق -وهم غالبية أهل السودان المطلقة- ونتج عن ذلك فوضى عارمة، وتقسيم وإقصاء وتصفية حسابات شخصية أو فئوية، أو قبلية، أو حزبية، أو فكرية -كما حدث في العراق بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية له عام 2003م، حيث جاءت بإرهابي منبوذ عراقياً ليرأس لجنة اجتثاث حزب البعث، أو بمعنى آخر اجتثاث المكون السني العربي - فإن أمريكا ولندن وباريس لن تذرف الدموع على السودان وأهله، ولن يكون أولوية على أجندة اهتماماتها. الغرب لن يكون في عجلة من أمره، وسيغرق السودان في أنهار من الدماء عدة عقود دون أن يحرك الضمير العالمي. فالمهم عند الغربيين هي الأدوات وليس الغايات، وسوف يسهمون في كل عام في تنظيم انتخابات شكلية ترضي ناخبيهم ولن تحقق للسودان الأمن والاستقرار.
المعسكر الآخر الذي يراقب وضع السودان يتمثَّل في الصين وروسيا وبعض دول الخليج ومصر يرى أن الحوار المؤدي إلى الاستقرار ووحدة أراضي السودان هو أولوية يجب الاهتمام به، ثم يأتي بعد ذلك الوقت المناسب لترتيب البيت السوداني عندما يكون المناخ مؤاتياً للعقلاء للخروج إلى العلن وخدمة السودان في جو من الثقة المتبادلة بين جميع الفرقاء.
يصعب إقناع الجيش بأن المعارضة جاهزة لحكم السودان بمسؤولية فتقدِّم مصلحة السودان على الرغبة في الانتقام. وتعلي من شأن التوافق على حساب شحن الشارع السوداني بعضه ضد بعض، في اجترار لما يحدث في بلدان عربية مجاورة للسودان. كما يصعب إقناع المعارضة بالتخلي عمَّا تعتقد أنه إنجاز لها. صحيح أن الثورة لم تكن لتنجح لولا تدخل الجيش عندما لجأت إليه، ولكن من يكبح جماح الثوار الذين يريدون اقتناص الفرصة التاريخية، وتأسيس قاعدة شعبية تمكنهم من الوصول إلى السلطة ولو على حساب أمن السودان واستقراره.
خيارات السودان صعبة، ولكن الأمل في حكمة السودانيين أكبر، ولن يعجز السودان عن تكرار سوار الذهب، أو استنساخ تجربة مانديلا عندما قدم السلم الداخلي على الثأر والانتقام من جلاديه. السودان أمام خيارين لا يجتمعان، إما الفوضى بتسليم الحكم لمعارضة لا تمثّل كل الأطياف السودانية، وإما بتمسك الجيش بأمن الدولة واستقرارها ووحدة أراضيها ومواجهة غضب شعبي، وعقوبات غربية لا يتحمّلها الوضع السوداني الداخلي.
السودانيون مطالبون اليوم بأن يفكروا في السودان، وأن يقدّموا تنازلات صعبة من أجله. لقد ذهب النظام ولن يعود، ولا يمكن استنساخه، ولكن المهم هو كيفية إدارة الخيارات الصعبة من أجل السودان.