سام الغُباري
- اشتقت لمدينتي، لوجه أبي، لشقيقي الذي يُعد حساب كل شيء، لصديقي بائع القات «حمران»، اشتقت إلى رائحة قريتي، حيث يقف جبل «عرمان» صلبًا منذ آلاف السنين شاهدًا على أرواح أجدادي، حارسًا شعاب ريف فقير وعنيد، اشتقت لقبر أمي، لأحياء المدينة التي شهدت ولادتي، لمدرستي، وجامعة ذمار، اشتقت للأوغاد الطيبين، للرجل الحقيقي في حياتي «صادق المصري».
اشتقت لجارتي الصغيرة التي أحببتها ولم ترَ فيّ شيئًا سوى ذلك الأحمق الذي يجلب لها الرُّمان من بستان دارنا القديم، يوم كنت أخرج متفقدًا خصلات شعري، أنيقًا كفتى يكافح أمام المرآة ليصبح وسيمًا، فيكمن في طريق حُبي الأول خطيب غادر يسرقها ويجعلها أمًا لخمسة أطفال، أكبرهم صار صديقًا على فيس بوك، شغوفًا بي، أرى فيه ملامحها وأصمت مرتجفًا كخائن غبي.
هل كان عليّ أن أموت كي أبقى؟! سؤال يضج حولي كل يوم، أجدني فيه بلا إجابة، وكلما سألت أصدقائي أين هُم؟ أشاروا إلى الجحيم كمستقر أحسن الجلادون ضرب قيودهم في قعره حتى وصل صراخهم إلى الله، وقد صار بعضهم نصف مجنون، يُحدثني كأبله فقد اتزانه.
- في إجازة عيد الفطر غادرت إلى اليمن متفقدًا أصدقائي، بعضهم أغلق هاتفه سريعًا خوفًا من اكتشاف أمره، وآخرون أوجعوني، وبقية تشجعوا فكان حديثًا جارفًا عن الشوق مليئاً بلعنات فائقة المرارة على حياة فقدوا فيها كل شيء عزيز، وتجاهلتهم سُلطة البشاعة وهي تأكل مواردهم وتعبث بأموالهم لتموّل حروبها على اليمنيين، وتحتكر المقدسات بدءًا من النبي وانتهاءً بالله عزَّ وجلَّ.
اشتقت لشقيقاتي، لضحكاتهن، وتذمّرهن من فوضى الحياة، لمطبخ منزلنا، لغرفتي وأدراجي، لمكتبتي، لصُحفي القديمة في بيت الدرج، اشتقت لرائحة القبو الذي كان مسكنًا لكلماتي، لرصيف حينا الفقير، وأزقة المدينة التي تذهب بك إلى سوق الربوع، لبائعي الفجل والكراث، لصوت «الدعر» في حمام الميدان البخاري، لجامع عبيلة، وبخور المدرسة الشمسية، لمنازل الفقراء، وسوق الحوطة، لأصدقائي في السجن، للفاسدين في مدينتي، لبراءة ضاعت يوم قرَّر الهاشميون هتك الأخوة والجيرة والرفقة الطيبة وقالوا إنهم «سادة» بالسلاح والعنف، فأجبروا كل اليمنيين على مواجهتهم ولعنهم علنًا وخفية.
أرادوا أن يملكوا مدينتي، أشاعوا أنها كرسيهم، وأنها «حيدرية علوية» وما كانت سوى «ذمار علي» حميرية سُلالةً وقلبًا واسمًا ووسمًا وهوية وروحًا ورجولة وبراءة، يخدعون هويتنا بزيف فاضح، ولا يزال تمثال مؤسسها منتصبًا وعاريًا في المتحف الوطني بصنعاء، كاشفًا عن أعضائه كأنه يقول: لن تنالوا مني! لكنه صامت كأبي الهول، وفي صمته بلاغة حضور تُحطم زيف أدعياء العنصرية الهاشمية.
- اشتقت لابنة أخي التي ولدت في غيابي وصارت اليوم طفلة تلعب كسندريلا مبهجة، اشتقت لـ «مَي» الصغيرة، وبنات أختي اللائي كُن يحطن بي ويغدقن وجهي قُبلات لا تتوقف حتى أخرج من بينهن مضرجًا بالحمرة والفرح. اشتقت للهجة ذمار القديمة، لحوانيتها وحذاقة بائعيها ونوادرهم، أتلذّذ سمك «الكبش»، وشراب «المارد» ذي الخلطة السحرية.
اشتقت لمقيل أصدقائي، لنميمتهم عليّ واعتباري ساذجًا يقرأ عليهم مقالاته كل يوم، فلا يحفلون!
اشتقت لرؤية قارئ شاب يصافحني، ويظنني أستاذًا في الصحافة فيشبع فيّ غرور الصحافي الذي لا يكسب من وهمه سوى التعاسة والهروب، اشتقت إلى زملاء كلية الإعلام، إلى إبراهيم جابر وشنبه، وغمدان الشوكاني وظرافته، إلى محمد السياغي ومكائده، إلى إبراهيم فتحي وعقله، إلى جيراني من آل شرهان والإرياني والبخيتي وعيسى والخلقي والعلواني والكميم، إلى طيبة عمي إدريس عثمان، إلى وجه طفولتي على صفح بركة ماء الوادي، إلى صوت كلاب المدينة في مساء التيه والقات.
أريد أن أرى مدينتي مرة أخرى، لكني لا أستطيع، لقد نصب الحوثيون السُلاليون الأفخاخ في طريق عودتنا، زرعوا البراميل المتفجّرة والألغام، نصبوا نقاط التفتيش لاختطاف أي كاتب، لملاحقة عبارات التواصل الاجتماعي، لكشف الوجوه الجائعة، ومنع الشوق من معانقة أبيه، أريد أن أعبر نقيل «يسلح» واُقبّل وجه صنعاء الحنون، ذاهبًا إلى مقيل صديقي «يحيى صالح» الذي صار شيعيًا فجأة، أريد أن أدنو من سور «الثنية» كل خميس بحثًا عن وجه الزعيم وحرارة لقائه واهتمامه وإنصاته وحكاياته، وبحة صوته، أريد أن أعود فأجد كل الذين غادرتهم قد عادوا معي.
- ها أنا أنصت لكل الأغاني الحزينة، حائراً كعاشق، فلا يسكن الولع ولا يهدأ الشوق وتبرد اللهفة، أفتش صور المدينة وصفحات الأصدقاء، أريد أن أسمع صوت صوامع ذمار مرة أخرى، أريد أن أصلي خلف «حسين الهلماني» لكنه مات طيبًا كما ولد، مات وأنا بعيد، كما غادر الحياة كثير من رفاقي.
ماذا لو أن بلادي بلا حوثيين، هل غادرتها؟ هل كانت الحرب؟ هل أصاب الجوع أهلي وطحنت المجاعة قرى اليمن؟ لقد كُنا سعداء قبل أن يقتحموا دورنا ويُسمّموا زرعنا ويحرقوا حقولنا ويغوروا آبارنا ويمنحونا هوية أخرى باسم الإسلام، كُنا نضحك ونلهو ونغني مع اليهود والبهائيين والعثمانيين والبرتغاليين وكل أجناس العالم، ما كان ليمني أن يقتل يمنيًا آخر إلا خطأ، أو بفتنة..