د.مساعد بن عبدالله النوح
رِعاية الأبناء وتنشئتهم تنشئة تليق برسالة الاستخلاف، ومكانة التكريم للإنسان وواجباته على هذه الأرض، وفي هذه الحياة، هي مسؤوليات جسيمة، لا يستطيع القيام بها إلا من نذر نفسه وماله وصحته؛ ووقته لهم؛ بقصد القيام بهذه المسؤوليات على نحو مثالي.
والوالدان هما أقدر على إنجاز هذه المسؤوليات ووفق إمكانياتهما الثقافية والمالية والصحية، ليس لأنهما مكلفان شرعاً وعرفاً بأبنائهما، ولكن لنوعية الروح التي ترافق هذا الإنجاز.. ولا يحق للأبناء أن يتذمروا من قصور إمكانات والديهم في التربية والنفقة والاستعداد للمستقبل بأي حال من الأحوال.
المعلم المخلص يستطيع إعداد أجيال صالحة للحياة والمجتمع، والخطيب الصادق في جامعه يستطيع أن يخطب في المصلين ويؤثر بهم ويساعدهم على تعديل سلوكهم وتحسين أفكارهم واعتقاداتهم، لكنهما لم ولن يكونان مثل الأب والأم. وهذه حقيقة متفق عليها لدى القدامى والمعاصرين والأديان والمذاهب على اختلافها.
الوالدان هما اثنان في العدد، لكنهما عالم بلا حدود ودنيا شاسعة. ومصابيح مضيئة، وأنس في الحياة المتلاطمة بالصعوبات والتحديات. أم بمثابة سُحب من الحنان والعاطفة، وأبُ بمثابة جبال من القوة والسند. الأب والأم كلمتان قليلتا الحروف، لكن لهما معاني كبيرة وسامية، لا تُشرح بكل ما تحمله اللغة من كلمات وحروف، حيث إن الأب صاحب المشاعر المتجدّدة الخالية من الكذب والأنانية والمصالح، وهو الوحيد الذي يعطي دون تفكير، أو مقابل وهو صاحب دعوة مستجابة لابنه.
والأم هي كلمة تحتوي على أكبر معاني الأحاسيس من حبّ وعطاء وحنان وتّضحية، وهي أنهار لا تنضب ولا تتعب، متدفّقة دائماً بالكثير من العطف الذي لا ينتهي، وهي الصّدر الحنون الذي تُلقي عليه رأسك وتشكو إليه همومك ومتاعبك.. تُعطيك من دمها وصحّتها لتكبر وتنشأ صحيحاً سليماً، وهي عونك في الدّنيا، والتي تُدخلك الجنّة.
إن السر وراء هذه الانفعالات الوالدية النقية؛ لأنهما ينظران لأبنائهما صغاراً وكباراً، أنهما ثمرات أفئدتهما، وفلذات أكبادهما، وزينة الحياة الدنيا، والسند في الكبر، وبعد الممات، فمن المستحيل أن يجد الأبناء مثل هذه الانفعالات عند غيرهما، وتستمر معهما حتى إذا أصبح الأبناء مسؤولين عن أنفسهم، ومستقلين في حياتهم، فهما أدفأ حضن لأبنائهما، أول من يفرح لهم، وأول من يحزن عليهما، دموعهما قريبة، وصادقة، وموجعة، فلا توجد يد حنونة مثل يد الأم، وعين كلها أمل مثل عين الأب.
وهما أول مصدر تعليم صادق ومخلص، فعن طريقهما يتعلم الأبناء الكثير من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم النافعة، والتي تسهم في تشكيل شخصياتهم عقلياً ودينياً وخلقياً ونفسياً واجتماعياً وإرادياً، وبالتالي يقدمونهم للحياة والمجتمع من ذوي الشخصيات المتزنة الصالحة.
وهما مصدر مالي لا يمن ولا يبخل، ينفقان بسخاء؛ ليرى كل منهما الفرح والسرور لدى أبنائهما والغناء عن الآخرين، وتستطيع أن تقارن بينهما والآخرين في العطاء، وستجد الفرق سريعاً ومقنعاً.
وهما درع حصين لأبنائهما، لكل فكر وقول وسلوك مخالف لثقافة المجتمع، يرضيان بما ينسجم مع توجه هذه الثقافة، ويرفضان كل ما يخالفها، دون ملل أو سأم.
أقولها وبصدق ليت الآباء والأمهات لا يتقدمون في العمر ولا يشيخون حتى وإن كبر الأبناء؛ ليبقوا مصادر حية للعطاء المعنوي والحسي.. إن القلب يعتصر وإن العين لتدمع عندما ترى والديك يجدان صعوبة في القيام والجلوس والقراءة أو يتألمان من مرض حتى وإن كان بسيطاً وقد كانا رمزاً لك في القوة والجدية.
بصدق كل الديون ممكن سدادها، والوفاء بحقوق الآخرين، إلا ديون الوالدين، فجهاد الأبناء مدى الحياة لن يوفي بهذه الديون. وديننا، وهو دين الوفاء، دين التربية الصحيحة، أوجب بر الوالدين والإحسان لهما أحياء وأمواتاً، وشدد على الأبناء القيام به، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} الإسراء 23-24، وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} لقمان14.. ومما جاء في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (سألتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ العملِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: الصلاةُ على وقتِها قال: ثم أيُّ؟ قال: ثم برُّ الوالديْن… الحديث) رواه البخاري.
اللهم احفظ لنا آباءنا وأمهاتنا، وشدهم بالعافية، وارزقهم راحة القلب، وصحة البدن، وحسن عبادتك، ومن كان ميتاً فرحمهم رحمة واسعة وأنزلهم منازل الصالحين الذين لا خوف عليهم.