د. عبدالحق عزوزي
أعطت مدينة بورتسموث البريطانية منذ أيام إشارة الانطلاق للاحتفالات المخلدة للذكرى الخامسة والسبعين لأكبر إنزال بحري في التاريخ في منطقة النورماندي الفرنسية لتحرير أوروبا من ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. وشكلت بورتسموث محطة الانطلاق الأساسية لأكبر أسطول هجوم في التاريخ، ضم 156 ألف أمريكي وبريطاني وكندي وعسكريين آخرين من دول الحلفاء، أبحروا إلى الشواطئ الشمالية لفرنسا. وأدت معركة النورماندي في 6 حزيران - يونيو إلى تحرير أوروبا وساعدت في إنهاء الحرب العالمية الثانية. وشارك في الحدث الملكة إليزابيث الثانية وقادة آخرون من العالم كالرئيسين الفرنسي والأمريكي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ولكن هاته الأخيرة لم تكتمل فرحتها، لأنه بدموع مؤثرة، قالت في خطاب متلفز مؤخرًا إنها ستستقيل في السابع من يونيو - حزيران المقبل من داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة) وإنها أبلغت الملكة إليزابيث بقرارها.
وستواصل تيريزا ماي مهامها كرئيسة للوزراء إلى حين اختيار زعامة جديدة. كما أعلنت أيضًا استقالتها من رئاسة حزب المحافظين ودعت أعضاء الحزب لاختيار رئيس جديد يقوده في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد. وعللت استقالتها بالفشل في تحقيق آمال وتطلعات الشعب البريطاني في إنجاح البريكست.
نعم كان قرار البريكسيت قد تم قبل ثلاث سنوات وكانت «UK LAVES EU» هي الجملة الصاعقة التي نزلت شؤما ومصيبة على كل رعاة وبناة الاتحاد الأوروبي وعلى كل أولئك الذين يؤمنون بقيم الوحدة الأوروبية والتعاون المشترك.. بريطانيا دولة عظمى منذ قرون، عرفت الديمقراطية في شرايينها قبل أن تعرفها دول عريقة كفرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، كانت دائمًا نموذجًا في الانفتاح السياسي، ومأسسة لدور البرلمان والمعارضة في سن القوانين وحكم الشعب بالشعب وبنت اقتصادًا قويًا وأنشأت قوة عسكرية متمكنة....
عندما هم البريطانيون بالخروج، فهم استراتيجيو الاتحاد الأوروبي أن البعد الوطني السيادي الأحادي قبر البعد الوحدوي الاتحادي التشاركي، وأن الذي قام بهذا التوجه ليست دولًا كالبرتغال أو كهنغاريا وإنما أقوى دولة أوروبية ومن أقوى دول العالم، فلم تفلح دعوات الرئيس الأمريكي آنذاك أوباما الذي نادى البريطانيين من قلب العاصمة لندن بالتزام الحكمة، ولا دعوات الشركات العابرة للقارات من إبقاء البلد حفظًا على مصالح البلاد والبشر، ولا وصول عمدة مسلم إلى بلدية لندن أقوى العواصم في العالم. لم يفلح كل هذا في إقناع متكلمي لغة شكسبير من تفضيل البعد الاتحادي على البعد الوطني. البريطانيون رجال متعلمون، يلج أبناؤهم أعرق الجامعات، وأصبحت البلدة عاصمة للبحث العلمي والاقتصاد وعالم المال في العالم، ولكن لهم شعور بأنه لا يحق للمنظومة الأوروبية إملاء القوانين أو الدروس على مسيرة البلد السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي رسمتها منذ قرون. كما مل البريطانيون الدفع للآلاف من المهاجرين من صناديق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية....
رغم شجاعة رئيسة الوزراء البريطاني وعملها الدؤوب وشهرتها على أنها تستطيع الصمود وسط ظروف شبه مستحيلة، فإن ذلك لم يسعفها في امتصاص غضب البريطانيين بل وحتى أعضاء حزبها؛ كما أن قرارها بإجراء انتخابات في 2017 خلّف وضعًا صعبًا جدًا، إذ خرج منها حزب المحافظين بعدد مقاعد في البرلمان أقل مما كان عليه قبل الانتخابات. فضلاً أن مسلسل البريكست أفقد ماي الكثير من أهم أعضاء الحكومة في فترة زمنية قصيرة. حتى إن عدد استقالات الوزراء في حكومتها فاق ما فقدته حكومتا توني بلير ومارغريت ثاتشر في عشر سنوات. كما أن الحديث عن البريكست استحوذ على رئاستها للحكومة، وهنا تراجعت شعبيتها كاملة.
أضحت الانقسامات سمة أساسية في فترة حكمها. واليوم، بعد إعلانها الاستقالة، يُتوقع أن نشهد منافسة على القيادة إذ يمكن لأي نائب من المحافظين أن يترشح للقيادة، وسيصبح الفائز قائدًا للحزب ورئيسًا للوزراء دون خوض انتخابات عامة.
يقيني أن بريطانيا ستشهد مرحلة انتقالية صعبة، وستعرف بلبلة في الأسواق وفي حي المال والأعمال، وهبوط سعر الجنيه الاسترليني، وتضخمًا يتجاوز خمسة في المائة، وزيادة في كلفة العمل، فيما سيتراجع النمو كثيرًا، وستزيد هاته الأجواء من نقل آلاف الوظائف من حي المال والأعمال إلى مركزي فرانكفورت وباريس الماليين، ولكن نظرًا لإمكاناتها البشرية والصناعية والمالية ستتعافى بعد مدة طويلة، ولكن بعد أن تترك صواعق في مؤسساتها وفي أوروبا على السواء.