د.محمد بن عبدالرحمن البشر
انقضى الشهر الكريم جعل الله دعاءنا مقبولاً، وسعينا مشكوراً، وحل العيد وودع، وهذا الدهر قد يعطي، ولكن ربما يمنع.
وأطل الصيف بلهيب هوائه، وحرارة شمسه وقلة زرعه وغرسه، لكن يظل فصلاً من الفصول يمكن للمرء أن يؤقلم نفسه على ما فيه، كما هي حال الدنيا بقبيح فعلها، وجميل صنعها، فما للمرء سوى التأقلم، وهجر الأسى والتألم، والنظر إلى الصيف وكأنه ربيع، وكأن رمضاء الأرض صقيع، فالحكم على الشيء إحساس يمكن للإنسان أن يوجهه بقدر ما يستطيع أو كما يقال: الحكم على شيء جزء من تصوره.
ستنطلق جحافل المسافرين لقضاء بضع أيام أو شهور، وقد تكون الوجه خارج الحدود أو داخلها، وأياً كان الأمر فإن للنفس حق الترويح، لتهنأ وتستريح، وإن بقي المرء في مكانه لا يبرحه، فإنه لن يحرم من نسيم الصَّبا نصيب.
تَنَشَّقَ مِن عَرفِ الصَبا ما تَنَشَّقا
َعاوَدَهُ ذِكرُ الصِبا فَتَشَوَّقا
وحق لهم أن يسعدوا بها، ففي النسيم العليل راحة بال، وفي صفاء السماء جمال، والنجوم تتلألأ كأنها عقد اللؤلؤ، بل من الظلم أن نمثلها به، وإنما يمثل العقد بجمال تلك النجوم في سماء الصحراء الصافية قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقُصُ قدرُه
إذا قيل إن السيفَ أمضى من العَصا
وقبة السماء تغطى الآفاق، وهي تزخر بتلك اللآلئ، ولا تكونوا كحال من يقول:
خَليلَيّ، لا فِطرٌ يَسُرّ وَلا أضْحَى
فما حالُ من أمسَى مَشوقاً كما أضْحَى
من المؤكد أن الصحراء جميلة، فلا تحرمنّ نفسك عن التمتع بالجمال، فالجمال والحب، والغنى، والفقر والخوف والأمن، كلها أحاسيس يصنعها الإنسان لذاته يقول المتنبي:
وَمَا الخَوْفُ إلاّ مَا تَخَوّفَهُ الفَتى
وَمَا الأمْنُ إلاّ ما رآهُ الفَتى أمْنَا
ومن أراد الخضرة والمطر، ففي ربوع البلاد ما يكفي عن الذهاب إلى خارجها، فالأشجار وارفة، والأغصان مورقة، والماء ينساب تحتها كأنه در يسير على الأرض.
وفي الصيف تكثر الفواكه، وتمتلئ الأسواق بما لذ وطاب، ولاشك أن الرطب يتربع على أريكتها، ويمشي بخيلاء بين غيره من الفواكه، فهو سيد الفاكهة دون منازع، فبضع تمرات في الصباح مع شيء من القهوة، تضفي على القلب نفح من الصبابة والراحة، عندما يضع المرء أنامله ليلتقط حبة من حبات التمر ثم يرفعها إلى فيه، في هدوء جم، في ذلك نشوة تعانق السماء، وإذا ما ألحقها برشفة من فنجان قهوة عربية، فكأنه قد وصل إلى حد المتعة، ومن ثم يصعب عليه التوقف، وإنما يكرر ذلك الفعل مرات ومرات، وربما حتى ينتهي قدم أمامه، لهذا فإن الأجدى تحديد عدد التمرات التي يضعها الإنسان أمامه حتى لا يسرف في تناول الكثير منها.
في الصيف يحتاج الجسم إلى الكثير من الماء، وقد تعود الكثير منا شرب القليل منه، فما علينا إلاّ تغيير تلك العادة، والإكثار من الماء، فهو دواء لكل داء، ومنافعه لا تحصى، وتركه يراكم في الكلية الحصى، وفي التذكير موعظة. عندما أذهب بعيداً في عمق التاريخ لأقرأ عن ذلك العناء الذي كان يعيشه الإنسان قبل ظهور النهضة العلمية الحالية، أعجب كيف استطاع تحمل تلك الظواهر الطبيعية، والتعامل معها بما يستطيع، والعيش بالقليل من الماء والطعام، وكيف له أن يسير في الفيافي بجمله، وكأنه سفينة تبحر في بحر لجي، يسير والسراب أمامه كأنه مستنقع ماء قد سطعت الشمس على سطحه، إذا انعكس ضوؤه على عينيه، وهي يسير غير آبه بما يرى، لعلمه المسبق أنه سراب يحسبه الظمآن ماء، وقد تحمل الرياح حبات الرمل لتلسع بلهيبها وقوتها وجهه وعينيه، وهو مستمر في طريقه تملأ قلبه الكبرياء والثقة في النفس التي منحته الغلبة على ظروف الدهر والصحراء، يسير الجمل متبختراً يزهو بصاحبه، ويعرف طريقه، ويقف عند بئر ماء قد قصده، وتعود على الري منه، والجمل بصفاته الفريدة، يستنشق الماء عن بعد، ويصبر على الجوع والعطش، وليس صاحبه عنه ببعيد.
فيما مضى كان بعض سكان البادية في كل مكان سواء في الجزيرة العربية، أو الصحراء الكبرى، أو غيرها، يفدون إلى الواحات، لتبادل ما بجعبتهم من أقط وسمن وإبل، مع ما لدى سكان الواحات من تمر ودقيق وشعير وخلافه، وكانوا يمكثون مدة كافية حول تلك الواحات لملأ قربهم بالماء، والتظلل تحت بساتين النخيل التي لا تخلو منها تلك الواحات.
إنها حياة فريدة، لم يعد لها أثر، وهكذا الحياة تتغير، سبحان مغير الأحوال.