د. حمزة السالم
الأجل المحتوم لا يفتأ إلحاحًا، يلح بتذكير النفس باقتراب ساعة المغيب، وضياع فرصة حصاد ثمار دروس الزمن الطويل. والذكريات مؤلمة، سعيدها وحزينها على حد سواء. فما هي إلا سرد لأحداث العمر؛ فتستفز به المشاعر؛ فتتعب النفس؛ ويلحقها الألم من وخز مخراز الذكريات التي تذكرها بضياع تاج العمر في تحصيل علوم ومهارات ومدارك، لم تنضج استيعابًا وفهمًا إلا من بعد أن كسر العقل قيود الاتباع؛ فتحرر من سجن التبعية العتيد. فمتى استيقظ الحس تنبه حينها صحوة الإدراك، التي ما أتت إلا وشمس العمر قد مالت نحو المغيب.
ومن صحا من غفلة الفكر لا يستطيع إنكار الحقائق، وتستعصي عليه نفسه فلا يستطيع خداعها، وتمنعه نفسه القلقة من الخلود للامبالاة. ففهم النفس يؤدي لضبطها قسرًا وجبرًا لا خيارًا وطوعًا. فلا يستطيع الرجل أن يظلم ما لم يكن خلقه عدوانيًّا بالفطرة. ولا يستطيع اقتراف فرية أو خيانة ما لم يكن خلقه خسيسًا فطرة. بينما قد يظلم الرحيم المسالم العادل، ويخون الأمين، ويفتري الصادق، وكل ذلك بخداع النفس وتضليلها؛ فلا يدرك عقله ظلمه أو خيانته أو فريته.
فحرية العقل التي أتت على المشيب كحرية كهل قد شب وشاب وهرم في سجن عتيد عتيق النظام غليظ المعاملة، قد ألفه السجين، واعتاد عليه حتى أحبّه، وعشق نظامه، وتشرب سلوك مَن فيه، حراسًا كانوا أو مساجين.. ثم، ليخرج حرًّا طليقًا، لا ينتظر أمرًا ليأكل، وأمرًا ليشرب، وأمرًا لينام؛ فلا يصحو على بوق نافخ، ولا على صياح غليظ. وليجد الكهل الطليق نفسه بعد ذلك في مدينة ترفيه ولعب، لم يتخيلها قط. فما من كتب في مكتبة السجن إلا ما يحكي علوم سلوك المساجين وتاريخ تمجيد السجانين العظيم؛ فيستنكر الهرم الطليق العبث والسرف والمجون، ويستقذر سلوكهم في تكريم المهرج السفيه، وإهانة الحارس الأمين؛ فيعجب منهم، ويعجبون منه، حتى يظن في نفسه جنونًا، ويظنون فيه خبالاً.
ومن خرج من سجن الفكر العتيق لا تحن نفسه إليه أبدًا، رغم ألم وجوده في مصحة المجانين، ووكر السحرة والمشعوذين، وسيرك الهرج والمهرجين. ولو لم يتحمل ألم معاشرة المجانين والمشعوذين والمحتالين، فسولت له نفسه العودة لسجنه القديم، فهيهات؛ فسجن العقول العتيق عتي الجدر، شديد المنعة في الدخول، كما هو شديد المنعة عن الخروج.
وفي الاغتراب اعتزال، لا تصوُّف فيه ولا انقطاع. فالعين إذا ما تجردت، وكان لها قلب حي فطين، وفكر متوقد ذهين، رأت أسباب العزة والذلة ماثلة أمامها في طرق حياة الشعوب؛ فمنها الشقي ومنها السعيد؛ فتتساءل النفس: يا تُرى، بماذا سعد أولئك؟ وبماذا شقي هؤلاء؟ هو هم مجد الأوطان أقلق الأمم العزيزة فتوتر مجتمعها؛ فما إن تغفو جفونهم حتى يصبحهم الهم العظيم، وتبلد عنه حس الأمم الذليلة؛ فناموا نهارهم حتى يمسيهم الهم الوضيع. ولهذا تسود دول، وتعز شعوبها، وتُهان أخرى، ويُذل أهلها.