د. محمد بن إبراهيم الملحم
في حديثي عن رسوب الاختبار ركَّزت على ظاهرة اهتمام المدرسة برفع نتائج طلابها، ولو سُئلت ما سبب هذا السلوك الغريب فلن أجزم بتحديد سببه، لعدم معايشتي هذا الحدث كممارس للمهنة أو مسئول، وإنما تزامن مع وجودي في النظام التعليمي كطالب فقط، وربما أن أحد مخضرمي تلك الفترة يفيدنا بذلك ، بيد أن لدي توقُّعاً ولدي أيضاً تحليل علمي، فأما التوقع فهو أن انتشار المدارس بنهاية السبعينات وكثرة عددها مقارنة بفترتي الخمسينات والستينات (حينما كان الهم الأكبر هو مجرد إقناع الطلاب بالالتحاق بالمدرسة) ربما كان له سبب في ذلك ، ولكن تحليلي العلمي سينطلق من استحضار كتاب «مرض الدبلوما» Diploma Disease لرونالد دور Ronald Dore من معهد الاقتصاد في لندن عام 1976، حيث أطلق هذا الوصف على ظاهرة «التمشهد» إن صح التعبير، وهي ظاهرة التوظيف المبني على الشهادة، وقرر أن هذه الممارسة غيَّرت معالم أهداف التعليم وحرفته عن مساره تماما، وبالنسبة لنا ففي فترة السبعينات والثمانينات تحسنت الوظائف وأقبل الناس على التعليم وكثرت المدارس بشكل كبير، فزاد اهتمام المسئولين بالنظر إلى نتائج المدارس لما يمثله عامل النجاح / الرسوب من دور كبير في النسق الاجتماعي فظهر هذا الداء لدينا، ويرى رونالد دور أن مرض الدبلوما ظاهرة عالمية في دول الاقتصاد النامي وحتى في بريطانيا واليابان وأشباهها من الدول.
ويشير دينيس بلليتيير Denis Pelletier إلى اهتمام العالم بنظرية هذا الكتاب، حيث صدر فلمان وثائقيان عن مرض الدبلوما عُرضا في تلفزيونات بريطانيا واليابان، كما أُنتج في الثمانينات فيلم تعليمي عن التدريس تحدث حول هذا المرض، واهتمت بالموضوع عدة دوريات علمية تربوية في إصدارات خاصة كما في IDS وAIE كما أشارت إليها مراجعات البحث العلمي الرصين في التسعينات كما في كتابات أنجيلا ليتل Angela Little من جامعة لندن، واستشهد الجميع بأن لهذا الداء دوراً سلبياً كبيراً في تراجع جودة التعلم والتعليم وظهور عدة مشكلات مؤثرة سواء في التدريس أو الاختبارات ، ومن أبرز هذه المشكلات التدريس للاختبار، وظهر معها أعراض جانبية خطيرة في بعض الدول مثل تسهيل الأسئلة وانتشار ظاهرة الغش في الاختبارات وكذلك الفساد في التصحيح ومنح العلامات غير الحقيقية، كل هذا لا يمكننا إنكار وجوده بشكل مؤثر لدينا، وكلما زاد إصرارنا على نفيها وتنزيه أو «تقديس» مجتمعنا عنها أو حتى ادعينا ندرتها دون دليل زدنا الطين بِلة، وذهبنا نعالج مرض الفشل الكلوي بدواء الكحة. وعندما يقول صاحب النظرية رونالد دور إن المرض «حَرَفَ التعليم عن مساره» فربما لا نتفهَّم جيدا ما يرمي إليه، على الأقل الفهم السيكولوجي أو النفسي للعبارة، ذلك أننا غالباً وعينا على دنيا التعليم والمدرسة ونحن في خضم هذا المرض، بينما هو يشير إلى حالة التعليم في عهوده الزاهرة (خاصة في عهد الاقتصاد الزراعي ما قبل الخمسينات ربما)، حينما كان الشخص يتعلم ليفهم ويطور نفسه وذاته ويحسن من إنتاجيته الشخصية في عمله ليكسب أكثر ، وكذلك ليفهم العالم أكثر، وهي الصورة الأصل للتعلُّم (التحضُّر والإنتاجية وتكوين الإنسان المدني / المثقف).
شخصياً أعتقد أنه من الضروري أن ينظر المخططون للتنمية لدينا نحو هذه النظرية بشكل جاد؛ لأن أثرها لدينا عميق جدا ولم يسبق تحليل واقع المجتمع ورأس المال البشري السعودي على أساس نظرية هذا المرض ومقتضياتها حول المنهج والاختبارات وطرائق التدريس والممارسات الشائعة في ثقافة المنظومة التعليمية، ومن ثم تأثر الاقتصاد والتنمية بكل هذه المعاملات بشكل مباشر وغير مباشر، لقد شهدنا جميعا وبوضوح الاختبارات المبنية على تجزئة المنهج وجميع الآباء والطلاب يعرفون ظاهرة «التحديد»، كما أن التدريب على أسئلة الاختبارات النهائية ليس شيئا مفاجئا لأي منا والاختبارات السهلة ذات الأسئلة التافهة لا نتصور أن تكون محل تعجب لأي منا، أما انتشار المدارس الأهلية التي تعيش على تسهيل دراسة المرحلتين المتوسطة والثانوية لمن يستطيعون دفع الرسوم، وجعل المدرسة لأبنائهم الغالين على قلوبهم تجربة جميلة لا تحمل أي معاناة أو تحدٍّ فلا أظن أن منصفاً سينكره البتة، شخصيا شهدت عدداً من التربويين المحترمين عندما يتقاعدون عن العمل ويلتحقوا ببزنس المدارس الأهلية يتخلون شيئا فشيئا عن قيم النزاهة في العطاء التربوي تحت مفاجأة المكاسب المالية الضخمة (سواء كانوا شركاء ملاك أو مديرين تنفيذيين برواتب عالية)، فيمارسون التربيت على رؤوس الطلاب وتدليلهم لإرضاء والديهم والذين يمنون عليهم في كل زيارة بعبارة (بفلوسي)، وسبب هذه الضجة كلها مرض واحد هو البحث عن الشهادة «مرض الدبلوما» ، مرض خطير وفي جعبتي الكثير عنه أتمنى أن أعود إليه مرة أخرى لاحقاً، ولكن أكتفي بهذا هنا لأني لابد أن أقول لكم: كل عام أنتم بخير.