د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** وسط التساقط المتوالي لمعظم المشروعات الملتبسة بالأدلجة ينشط التفكير الباحثُ عن دربٍ غيرِ ذي عوجٍ يجتاز مفازات التيه ساعيًا لالتقاط شتاته بعد ترحالٍ ذهنيٍ ونفسيٍ لم يلُحْ فيه ضوءُ النفق، وإذ تراجعت مشروعات الصحوة والحداثة وما بعدهما وبدأنا رحلة ما «بَعد البعد» الأقربَ للفوضى، فإن العقلانيين -وهي التسمية الألطف للاَّأدريين- ناشطون ويمثلون حضورًا علنيًا في العالم الرقمي لا يخشى الرقباء ويتعمدُ المواجهة مع الأصوليين، وهو تيارٌ يصعب تجاهله، وله امتدادٌ موروثيٌّ كونيٌّ منذ الأزل، وشهد حضورًا عربيًا في الحقبة المتزامنة والتالية لمرحلة التحرر من الاستعمار، حيث ساد التشكيكُ بالحقيقة المطلقة. والفارق أن مؤثري تلك الفترة معدودون، أما اليوم فعديدون.
** لم يخشَ «إسماعيل أدهم 1911- 1940م» حين كتب رسالته: «لماذا أنا ملحد» متفاعلًا فيها مع رسالة «أحمد زكي أبو شادي» صاحب جماعة «أبوللو» 1892 - 1955م عن «عقيدة الألوهية»، ورد عليه «محمد فريد وجدي 1878- 1954م» بمقالة: «لماذا هو ملحد»، وبالمثل لم يتردد «عبد الله القصيمي 1907- 1996م» في أن يكون كتاباه: (الكون يحاكم الإله) 1980م الذي أهداه إلى إبليس و(يا كلَّ العالم لماذا أتيت) 1986م الصادم في رفضه آخرَ كتبه، وبينهما ومعهما وبعدهما أسماءٌ استترت بعباءة الفلسفة، وفي مقابلها تجارب مفصلية راجعت وتراجعت فأوصلها الشك إلى اليقين كما في تجربة د. مصطفى محمود 1921- 2009م، والحديث يطول.
** واليوم تواجه الباحثين المعنيين بالقضايا الفكرية معضلةُ الربط بين العقل والدين فيما لا مزيد على الجدليات الحادة حول «إمامية» أحدهما لشؤون الحياة والأحياء وفق «المعري 973- 1058م»:
«كذب الظنُّ لا إمامَ سوى الـ
عقل مشيرًا في صبحِه والمساءِ»
و»أبو العلاء» في بيته هذا يتواءم مع منهجه « المتطرف» الذي وضع فاصلًا بين العقلاء والمتدينين:
اثنان أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا
دينٍ وآخرُ ديِّنٌ لا عقلَ لهْ
** ولقدسية الدين عند المؤمنين وتقديس العقل بين اللاأدريين فلا يمكن نسج علاقة طردية أو عكسية بينهما عبر منهج متحيزٍ يتبع أحدَهما، والمدارسُ الفلسفية المتتابعة من لدن الإغريق حتى اليوم تُعلي دورَ العقل في ربط التطور الإنساني مع المفاهيم المجردة دون أن يستطيع ضبط الاتجاهات أو يقدر على فرض الإيمان أو اجتراح الإلحاد، وفي المقابل فقد يبلغ العقلُ -تنظيرًا- مراتب الخير المطلق أو الشر المحض من غير أن يكون مهيأً لاستيعاب الماهية والكيفية؛ فالعقل المتمرد لا حدود لفضاءاته ولا مدى لتجاوزاته، وحين يتحرر من القيود أو لا يعبأُ بها فإنه يرى ما لا يُرى فيوهمُ من يتوهم ليُصنِّمَه ويتصنم.
** ومع التسليم بأن الحضارة الإنسانية ممتنة لإنجازات العقول التي أضاءت وأضافت واستطاعت الغوص في الأعماق والسفر نحو الآفاق فإن الاتكاء عليها هش، كما أن تجاهل الحوار مع التيار المقتنع بها مزيدٌ من التيه.
** الحقُّ عقلٌ ونقل.