د. عبدالرحمن الشلاش
عندما أسافر لأي بلد أتمعن كثيرًا في وجوه العابرين إلى أماكن التسوُّق والمطاعم والمقاهي والمدن الترفيهية وغيرها، وكأني بهذا الفعل أرصد ردود أفعال الناس، خاصة السياح منهم، وبخاصة العرب والخليجيون عمومًا، وبخاصة السعوديون، فأجدهم بين سعيد بأجواء الرحلة، وحزين متجهم؛ ربما تعرض لحالات نصب واحتيال، أو فرغ لتوه من مشادات كلامية مع أحدهم، ومتذمر ساخط على الوضع الذي وجد أنه لا يسره بسبب غلاء الأسعار، أو عدم العثور على سكن مناسب، وأمور قد تخفى على المتابع.
أكثر ما يشدني مشاهد العائلات، خاصة من أبناء وطني السعودية، وبخاصة مَن تراهم يتحركون كمجموعة واحدة: الأب والأم والأبناء والبنات، الشباب والأطفال، بعضهم ترافقهم الشغالات.. وآخرون دخلوا لتوهم قفص الحياة الزوجية، أو زوجان بدون أولاد ولا أطفال لظروف خاصة، أو عائلات دون شغالات. اللافت يكمن في طريقة تحرُّك تلك العائلات، ومدى انتظامهم في السير والتجوال، خاصة في دول أوروبا؛ إذ يتطلب أسلوب الحياة اعتماد كل فرد على نفسه بشكل كبير؛ فالقطارات تفتح أبوابها ثواني معدودة، ثم تغلق أوتوماتيكيًّا؛ ما يعني أن يكون كل فرد مسؤولاً عن نفسه؛ كي لا يتأخر عن رَكْب العائلة. وأغلب أماكن السكن لا تقدم خدمات حمل الحقائب؛ وعلى كل شخص أن يحمل حقائبه بنفسه، فضلاً عن حالة الانضباط العامة التي تفرض على الجميع التقيد التام بالطوابير، والتوقف أمام إشارات المرور الحمراء، وطبيعة الحياة العامة في أوروبا؛ إذ تفتح المحال إلى الثامنة مساء؛ فالسياحة تكون نهارًا، والنوم ليلاً، ثم الاستيقاظ مبكرًا.. وهكذا. وهي حياة ونمط جديد على عائلاتنا؛ يستدعي الانضباط وتحمُّل المسؤولية، والتعاون بين أفراد العائلة بتناغم تام، يساعد على نجاح الرحلة، وعودة العائلة إلى الوطن وقد استمتعت بأيام جميلة، لا أن تعود الأسرة يعلو وجوه أفرادها الكدر من خسارة أموال في غرامات أو حالات نصب، أو ضياع أحد أفراد العائلة، أو الدخول في مشاكسات وقضايا قلبت الفرح إلى ترح، والآمال إلى أحلام بائسة بسبب قلة المعرفة والخبرة، أو اتكالية أفراد الأسرة.
من وجهة نظري أرى أن السفر لدول يسودها الانضباط، ويحكمها القانون والنظام، فرصة ثمينة جدًّا للأب والأم للانفراد بأبنائهما، وتدريبهم على سلوكيات جديدة، لم يتدربوا عليها في بلادهم بسبب الانشغال بأمور الحياة، وبقاء الأب والأم لساعات طويلة خارج المنزل، أو اللقاء آخر الأسبوع، وهي فترات قصيرة جدًّا، لا تسمح بتدريب الأبناء على أنماط سلوكية، تعزز من قدراتهم على تحمُّل المسؤولية، ومواجهة صعوبات الحياة. كما أن وجود السائقين والشغالات يضاعف من الاتكالية لدى أفراد الأسرة.
في السفر فرصة لزيادة المخزون الثقافي لدى الأبناء، والدخول معهم في حوارات شيقة ومثمرة، والاستماع إلى آرائهم وانطباعاتهم، وزيادة الترابط بين أفراد الأسرة، وكسر الجمود والرتابة والروتين.. لا أن يكون السفر لمجرد الأكل والشرب والنوم، ونقل صور سيئة للشعوب الأخرى عن فوضويتنا، وكسر الأنظمة في دول عوَّدت شعوبها على احترام النظام.