د. محمد عبدالله العوين
قال لي صالح: سألتقط لك صورة ممتازة في مزرعة البطين، فعليك أن تذهب سريعاً لتغيير ملابسك.
ارتديت جاكيتاً أسودَ مع أننا في عز الصيف، ولبست غترة بيضاء جديدة وتحتها طاقية كانت أكبر بقليل من رأسي، وانطلقنا إلى المزرعة، غاصت قدماي بين الشجيرات الصغيرة ووضعت يدي على خصري كما يفعل الفنانون -آنذاك- وكانت الشمس تسطع في عيني، لكن المصوِّر البارع أرادها كذلك لوضوح ونقاء الصورة!
كانت تلك أول لقطة لي في حياتي، كما أنني التقطت له كذلك أول لقطة له في حياته!
ما سر الغرام بالتصوير؟!
وما هي الدوافع التي كانت تحثنا على توثيق اللحظات والرحلات والاجتماعات والزيارات وجلسات الأنس واللعب؟
ثم ما هي الدوافع أيضاً لتصوير الشوارع والأزقة والأسواق والدكاكين والمساجد والحفلات والمهرجانات والاستعراضات الرياضية والخطب والأودية والبيوت والأمطار وقت نزولها والسيل وقت اندفاعه والوجوه العابرة والمنشغلة والساهمة والضاحكة والعابسة أيضاً؟!
في سن صغيرة بين العاشرة والسادسة عشرة كنا نعتقد أن كل ما نراه وما نعيشه ومن نتحدث إليهم ونأنس بهم ويأنسون بنا راحلون يوماً، وأن ما نمر عليه من معالم وأبنية وشوارع قد تهدم وتتغيَّر ولن يبقى لها أثر، وأننا نحن سنكبر ونتغيَّر ولن تحتفظ قسماتنا بما هي عليه في سن المراهقة والشباب فحري بنا أن نصطاد كل ما حولنا وألا نفوت صغيرة ولا كبيرة قدر طاقتنا إلا أدخلناها إلى ذاكرة التاريخ.
الحق أن (صالح) كان المفكِّر والمبدع الأول، وهو من دار في مدينتنا الصغيرة وأنا بجانبه نتبادل المهمة؛ مرة هو ومرة أنا، نلتقط الفضاءات الواسعة من علو جبل أو من طلعة كثيب رمل، ونميل زوايا الكاميرا إلى الجهات الأربع لتشمل اللقطات جهات المدينة كلها، وندخل إلى السوق صبيحة يوم التاسع والعشرين من رمضان 1389هـ وكان مكتظاً بالمتسوِّقين والبائعين وغاصاً بالبضائع في يوم لا يتكرر إلا مرتين في السنة؛ تاسع عشرين من رمضان وتاسع ذي الحجة، فكان علينا ألا ندع شاردة ولا واردة في السوق إلا اصطدناها، يا له من تاريخ غني نخزنه في ذاكرة بكرة فيلم رخيص لا يتجاوز ثمنه آنذاك خمسة ريالات!
كنت في البداية مرافقاً للمعلم، ورويداً رويداً ألح عشق التصوير علي لشراء كاميرا؛ لكن من أين لي ذلك المبلغ الذي يأتي بالكاميرا؟!
جاءني عرض مغر!
أن أنهض بمهمة البيع في مكتبة جديدة ناشئة؛ هي مكتبة الثقافة براتب شهري مقداره مائة ريال يُضاف إلى مكافأة المعهد العلمي مائتين وعشرة ريالات، مبلغ كبير حقاُ لطالب في السنة الثانية بالمرحلة المتوسطة!
ويا لها من فرحة كبرى حين اقتنيت كاميرتي الخاصة وأصبحت نداً للمعلم لا مرافقاً له!
وفي مهمة التزوّد من مكتبات الرياض لمكتبة الثقافة كانت أفلام الأبيض والأسود والملوّنة الهدف الأول في الرحلة، والمشكلة كانت في التحميض، فما إن تمتلئ لا بد من رحلة أخرى لتحميض ما اصطادته الكاميرا... يتبع