محمد بن عيسى الكنعان
تركيا دولة إسلامية سنية كبيرة، وتتمتع بموقع استراتيجي بين قارتين، وخاضت تجربتين تاريخيتين، الأولى عندما كانت إمبراطورية عثمانية، والأخرى عندما أصبحت جمهورية علمانية على النمط الأوروبي الغربي، مع ذلك يصدر عن قيادتها السياسية والحزبية مواقف سياسية غريبة، وممارسات تعد في المقياس السياسي أخطاء استراتيجية، وذلك بسبب طغيان التعصب القومي الطوراني (التركي) على حسب الوعي السياسي، ومن أبرز تلك الأخطاء، محاولة منافسة المملكة على مكانتها الأولى في العالم الإسلامي، وممارسة الابتزاز السياسي، وانحيازها غير الواعي في القضايا الإقليمية، وتصريحات مسؤوليها التي تثير البلبة وتتجاوز الأعراف الدبلوماسية.
قد يقول قائل إن المنافسة بين تركيا والمملكة تعزز الواقع الإيجابي للعالم الإسلامي، لأن كل دولة تسعى لإظهار أفضل ما لديها، وهذا يبدو صحيحاً منطقيًا ولكنه يخالف الواقع المعاش، فتركيا - في حقيقة الأمر - تتطلع إلى قيادة العالم الإسلامي، وربما استعادة الموروث العثماني بنموذج جمهوري حديث، وهي تعلم ابتداء أن هذه القيادة وتلك المكانة الإسلامية لن تكون إلا للمملكة وبلا منازع، فهي دولة إسلامية مدنية كبرى قيادة ونظامًا وشعبًا، ومهبط الرسالة المحمدية، وفيها الحرمان الشريفان، وهما تحت اهتمام ورعاية وحماية المملكة منذ القرن الثامن عشر الميلادي، كما تعد المملكة محور الوطن العربي، والعمق الاستراتيجي لمنطقة الخليج الحيوية، فضلاً عمّا تتمتع به من أمن واستقرار يعتبران نموذجيين، أضف إلى ذلك أن المملكة لها ثقل اقتصادي ومهم في العالم، ولاعب رئيس بأسواق النفط العالمية، فضلاً عن القبول الذي تحظى به المملكة من قبل شعوب العالم الإسلامي. بينما تركيا دولة علمانية على النمط الغربي وتحكم شعب مسلم، وهي بذاتها لا ترى فضائها في عالمنا العربي بقدر ما تراه بآسيا الوسطى ودول البلقان تتبعًا للعرق التركماني. ولديها إشكالات اقتصادية، ودعمها للقضايا الإسلامية ما زال محدودًا، كما تقيم علاقات مع إسرائيل؛ لذا فالمنافسة بين المملكة وتركيا محسومة أساسًا، وهذا هو الخطأ الاستراتيجي الذي ما زالت تركيا ترتكبه في سعيها إلى هذا الوهم، بينما الأجدر لها أن تنافس الدول الإسلامية الأخرى مثل باكستان في التعاون مع المملكة عالميًا، أو العربية مثل مصر.
في إطار هذا الخطأ أعطت تركيا لنفسها الحق في التدخل في القضايا الخليجية، وهذا خطأها الثاني الاستراتيجي عندما إنحازت إلى دولة قطر بشكل كامل. بينما كان المفترض أن توازن مصالحها، أو على الأقل أن تقف على الحياد، أو تعزز فرص الوساطة، خاصة أن علاقاتها جيدة مع دول المقاطعة؛ لا أن ترمي بثقلها في الجانب القطري لدرجة إرسال قوات عسكرية إلى الدوحة. ثم كانت قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي (رحمه الله)، وهذا خطأ استراتيجي ثالث ارتكبته تركيا عندما راحت تستغل هذه القضية في ممارسة الابتزاز السياسي تجاه المملكة، وكأنه مواطن تركي، دون أن تعي أن المملكة عصية على ذلك، فقطعت حكومة المملكة طريق هذا الابتزاز بإعلان ملابسات القضية، وكشف تفاصيلها للرأي العام العالمي، وإخضاع الفريق المتسبب بقتل خاشقجي للتحقيق بكل شجاعة وثقة، ومع الأسف أن تركيا ما زالت تمارس هذا الخطأ بمحاولة التذكير المستمر بهذه القضية، من خلال تسريبات معلوماتية لبعض وسائل الإعلام المعادي، ولا تدري عن حقيقتها ومدى صحتها خصوصًا أن ذلك الإعلام يعيش على مائدة مهاجمة المملكة ليل نهار. لقد انتهت تلك الأزمة ونجحت المملكة بتجاوزها؛ فهي تجيد فن إدارة الأزمات، وتركيا ما زالت تكرر إسطونتها. ومن ذلك قيام بعض المسؤولين الأتراك -بما في ذلك الرئيس أردوغان- إلى إطلاق التصريحات غير الواعية، التي تفتقر للعمق السياسي والعرف الدبلوماسي، وكان آخرها ما قاله ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي، الذي كتب مقالاً اسماه خطابًا مفتوحًا، حشاه بالمنطق الهزيل والتصورات الخاطئة والعبارات المهترئة، مرتكزًا على أكاذيب إعلامية عن إعدامات بالسعودية، كما استعار مفردات الخطاب القومي العروبي عن توزيع الثروة، ولكن بعبارة أخرى مفادها أن مال السعودية لكل المسلمين. ولو أنه كلف نفسه، أو من يعملون معه لرصد حجم إنفاق ومساعدات المملكة للعالم الإسلامي - وهو من باب الإخوة والدين وليس منّه ولا فضل- لعرف أنه يوازي حجم ميزانية تركيا عدة مرات، وأن هذه المساعدات -وحدها- تؤكد القيادة الأولى والمكانة الأسمى للمملكة في عالمنا الإسلامي، وتجعل فكرة المنافسة لدى الأتراك مجرد حلم. ذلك المقال أو الخطاب -كما يسميه- لم يكن نصيحة أخوية، فالنصائح لا تكون بذلك الأسلوب الاتهامي وبتلك الطريقة السافرة، ولا يعزز فرص التقارب والتعاون الإسلامي، إنما يُسيء لتركيا قبل المملكة، فلن يضرنا تصورات ميضة! بل يضر كاتبه لأنه يكشف عن عقليته وعلاقة ذلك بمنصبه، كما يشوه سمعة بلده.
ما سبق بعض الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها تركيا، فضلاً عن أخطاء أخرى تصل إلى التناقضات، ولم نحص جميعها، كعلاقتها الضبابية مع إيران، وعلاقتها المتلونة مع روسيا رغم أنها مع المعارضة وضد الرئيس بشار الأسد المدعوم من الروس، فضلاً عن علاقته مع إسرائيل في مقابل تبنيها موقف حركة حماس، وغيرها.