د.عبد الرحمن الحبيب
العالم يمر بمرحلة انتقالية وأمواج تغيير، وأوروبا ليست استثناءً فهي تمر باضطراب اجتماعي وتغير سياسي، ظهر بوضوح بعد حصول الشعبويين والقوميين (أقصى اليمين) على مراتب متقدمة بانتخابات البرلمان الأوروبي.. فهل ستتغير الخريطة السياسية داخل البلدان الأوروبية؟ هل هي بداية لتفكك الاتحاد الأوروبي؟ هل سيهدد ذلك مصالح الدول العربية خاصة دول شمال أفريقيا، وهل ستغلق الأبواب أمام المهاجرين؟
كانت النظم الحاكمة بدول الاتحاد الأوروبي مستقرة تدور في فلك الوسط يمينه ويساره، لكن بالانتخابات الأخيرة مالت نسبة كبيرة من يمين الوسط إلى أقصى اليمين فيما توجهت نسبة لا بأس بها من يسار الوسط إلى الخضر أو اليسار، بينما الأحزاب الوسطية التقليدية فقدت تصدرها للمشهد السياسي لأول مرة بتاريخ الاتحاد الأوروبي، وربما إلى غير رجعة..
تقول «فورين بولسي»: يشعر العديد من الناخبين بالضيق من تعامل الائتلافات الكبرى المكونة من أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط مع الأزمات، من الأزمة المالية إلى تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى معالجة تغير المناخ. وتعتقد كورينا ستراتولات، المحللة السياسية البارزة بمركز السياسة الأوروبية في بروكسل، أن الأحزاب اليمينية المتطرفة موجودة لتبقى ما دامت الأحزاب الوسطية تكافح لإيجاد طرق لاستعادة الناخبين الساخطين.. إنهم يحاولون سد الفجوة التي تتسع بين المواطنين والنخب، ولم نسد تلك الفجوة.. لا نعرف حتى إذا كان من الممكن سد هذه الفجوة».
فما هي أهم نتائج هذه الانتخابات؟ في ألمانيا، انخفض حصاد الحزب الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط)، من 35 % من الأصوات عام 2014 إلى 28 %، وانخفض الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط) من 27 % إلى 15 %. في فرنسا تصدر حزب التجمع الوطني (شعبوي) بنسبة 24 % مقابل 22.5 % لحزب الجمهورية إلى الأمام حزب الرئيس ماكرون. في بريطانيا خسائر فادحة للمحافظين (يمين الوسط) وحزب العمال (يسار الوسط) بينما تصدر النتائج حزب بريكست، حديث الإنشاء، (32 %من الأصوات). بالمقابل فإن أحزاب يسار الوسط في إسبانيا وهولندا أظهرت نتائج جيدة.
أما القفزة الكبرى للشعبويين فكانت في بلدين.. إيطاليا حيث حقق حزب رابطة إيطاليا فوزاً كبيراً بقيادة ماتيو سالفيني (نائب رئيس الوزراء الإيطالي) الذي اعتبر النتائج «نهضة أوروبية جديدة»، وهو يشكل رأس حربة تحالف جديد للجناح اليميني ويمثل القوميين في عموم أوروبا.
وكان الفوز الأكبر للشعبويين في المجر إذ حصل حزب فيدسز المناهض للهجرة على 52 % من الأصوات و13 من أصل 21 مقعداً لبلاده بالاتحاد الأوروبي. وقال زعيم الحزب فيكتور أوربان (رئيس الوزراء المجري) «نحن حزب صغير لكننا نريد تغيير أوروبا»، واصفاً الانتخابات بأنها «بداية حقبة جديدة ضد الهجرة».
سالفيني وأوربان يمثلان أقصى اليمين القومي الذي يعد بوضع حد للهجرة ومنح المزيد من السلطات والصلاحيات للبرلمانات الوطنية وليس لبروكسل.
هل ستتغير الخريطة السياسية للبلدان الأوروبية؟ ليس بعد، فرغم أن الأحزاب اليمينية المتطرفة حققت انتصارات في البرلمان الأوروبي لكن دون الوصول إلى كتلة برلمانية مؤثرة، كما أن خصومها من الخضر والليبراليين واليساريين الذين حققوا نتائج جيدة سيعيقون قدرة الشعبويين على التحرك والتكتل.
هل يعني تقدم الشعبويين بداية لتفكك الاتحاد الأوروبي باعتبارهم من المؤيدين للخروج منه؟ كلا، فلم يعد أحد من الأحزاب الشعبوية يصرح بذلك بعدما وجدوا ما حصل لبريطانيا من «بهذلة» خروجها من الاتحاد الأوروبي الذي يبدو أنه يعاقب بريطانيا ويردع غيرها من الخروج.
لذا من المستبعد أن تشكل الأصوات المنادية بالخروج قيمة تذكر، لكنها ستعمل جهدها لتقليص وكبح قوى الاتحاد الأوروبي، لصالح سلطة أوسع للحكومات الوطنية.
هل يهدد صعود الشعبوية مصالح الدول العربية خاصة دول شمال أفريقيا، وهل ستغلق الأبواب أمام المهاجرين؟ اليمين المتطرف لم يصل إلى كتلة برلمانية مؤثرة ومن ثم لا تهديد مباشر، إلا أن تنامي المد الشعبوي يعني أن هذه الطمأنينة لن تستمر وأمام المهاجرين تحديات حقيقية، كما قد تواجه الاتفاقيات مع بعض دول شمال أفريقيا صعوبات جدية.
إذن، ما هي المحصلة المتوقعة؟ لا يزال للكتل التقليدية المؤيدة للاتحاد وزنها، لكنها ستحتاج إلى تحالفات جديدة وتنازلات جديدة، فمن بين 751 مقعداً للبرلمان الأوروبي، تشير التقديرات إلى حصول حزب الشعب الأوروبي (يمين الوسط) على 180 مقعداً، متراجعاً عن نتائج عام 2014 (216 مقعداً)، وحصول الاشتراكيين والديمقراطيين (يسار الوسط) على 150 مقعداً منخفضاً 41 مقعداً عن عام 2014. أي أنهما لن يتمكنا لوحدهما من إعادة تشكيل التحالف الكبير الذي أتاح لهما بناء توافقات تشريعية وتقاسم المناصب القيادية، وسيكونان بحاجة لتشكيل ائتلاف مع الليبراليين والخضر. لذا، سيستمر البرلمان الأوروبي الجديد مؤيداً للاتحاد الأوروبي، لكنه على نطاق أضيق مما كان.
الخلاصة، أن اليمين القومي لم يكتسح البرلمان الأوروبي، ولم يتم القضاء على الأحزاب الحاكمة التقليدية إلا أن نتائج الانتخابات تعكس ميلاً واضحاً على رفض الوضع الراهن، حيث يبحث الناخبون الأوروبيون عن إجابات لم يجدوها في الأحزاب التقليدية.. إنهم يميلون إلى الأحزاب والشخصيات السياسية التي يشعرون أنها تمثل قيمهم وأولوياتهم بشكل أفضل، كما تقول كاتيا آدلر محررة الشؤون الأوروبية.