د. خالد عبدالله الخميس
مقابلة علي الفقعسي؛ العائد من الفئة الضالة؛ مع الإعلامي عبدالله المديفر في برنامج الليوان الذي بثته قناة روتانا خليجية في شهر رمضان، أكد فيه عدم جدوى أسلوب برامج المناصحة لتعديل الأفكار المتطرفة، كون برنامج المناصحة تُمحور الذهن حول الفكرة المتصلبة بدلاً من أن تضعفها. وأجدر من أسلوب المناصحة هو أسلوب تغيير البيئة بكل ما تعنيه هذه العبارة من معانٍ، ويشمل التغيير، تزويد النزلاء بنشاطات مهنية وترويحية ومهارية وثقافية وفكرية تحوي عناوين مغايرة لما اعتادت عليه أذهانهم.
إن تزويد مكتبة النزلاء مثلاً بكتب لم يعتد النزلاء على قراءتها وأفلام لم يعتادوا مشاهدتها، يُلزم الذهن باستقبال رسالة مبطنة بأن هنالك العديد من القضايا والتساؤلات الثقافية والفكرية هي محل لأن ينشغل بها العقل ليتأملها وينجذب إليها الفكر ليتفكر فيها.
هنالك مجتمعات من عصور سابقة تفككت صلات أفرادها نتيجة لسيادة فكرة عبثية قسمت المجتمع إلى مجتمعين؛ مؤيد ومعارض؛ فالمجتمع البيزنطي تقسم فكرياً إلى مجتمعين بسبب هيمنة قضية: البيضة أم الدجاجة، أولاً؟ وكذا في عصور إسلامية؛ تقسم المجتمع إلى مجتمعين، حول قضية: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ وكذا دارت عقول المجتمعات المتطرفة في وقتنا الراهن حول؛ هل قتل الكافر يدخل الجنة أم قتل المسلم الذي يحرس الكافر؟
كل تلك القضايا رغم بساطتها قد أشغلت عقول أمم سابقة وجماعات معاصرة، وهذه العقول محورت قضية الكون والحياة حول أسئلة ساذجة.
هذه العقول رغم اختلاف محتوى السؤال المحوري إلا أنها تتشابه في استراتيجة التفكير؛ كونها فُرغت من أي شيء وجعلت من اللا شيء قضية القضايا.
إن سبب هذا افتراس العقول من قبل تساؤل عقيم، يرجع لحقيقة أن العقول تجاهلت قضايا الكون الأساسية، ولو التفتت العقول للاهتمام بالعديد من القضايا فإنها ستكتشف أنها مغيبة عن منطق العقل.
مرة أخرى، ما تعمله برامج المناصحة، هو تعميق الأسئلة البيزنطية المهيمنة على الذهن، وبالتالي توسيع محيط الدائرة التي تحوي قضية صغيرة مما يضاعف من حجمها ويزيد تعقيدها وظلامها.
إن العقول التي تشتغل بقضية أحادية فهي بلا شكل ستنقاد لحصيلة من المفاهيم والسلوكيات العبثية، فالذي لم ير سوى البيضة والدجاجة، سيكون تساؤل أيهما أولاً: البيضة أم الدجاجة، هو محور حياته، الذي يعيش في حجر النمل فلن يرى الكون سوى عالم من النمل، والذي يعيش في البحر فلن يرى الكون إلا عالمًا من الأسماك، والذي يعيش في بيئة تردد عليه سؤال معين كجواز قتل الكافر، فسوف يمحور الحياة على دم الكافر. وهكذا ينشأ الفكر المتطرف أياً كان دين صاحبه أو عرقه.
وبمقارنة برنامج المناصحة مع برنامج إدارة الوقت، المعمول بهما في الإصلاحيات، يتضح أن برنامج المناصحة يحاول مثلاً إقناع فكر الفئة الضالة بحرمة قتل المستأمنين، وهذا الأسلوب يعزز دوران العقل في فلك التساؤل البيزنطي، بينما برنامج إدارة الوقت عبر تغيير البيئة وتوسيع مدارك العقل فإنها تُهمش أهمية الموضوع من أساسه.
ومن واقع تجربتة؛ أفاد الفقعسي تخليه عن الأفكار المتطرفة، وأن برامج إدارة الوقت ساهمت بشكل كبير في رؤية الحقيقة وأفاد أيضًا أن برامج إدارة الوقت أفضل في التأثير لرؤية الحقيقة بشكل يفوق برامج المناصحة، حيث تهدف برامج إدارة الوقت لتزويد الأفراد بخبرات جديدة وكتب جديدة ومواضيع جديدة ومهارات جديدة تفتح آفاق العقل لحواره مع قضايا متعددة بدلاً من التمحور حول القضية البيزنطية.
في سياق متصل، أفاد منصور النقيدان العائد من الفئة الضالة، في نفس برنامج الليوان، أنه حينما سأله القاضي: هل أنت نادم عن تفجير محل فيديوهات، قال للقاضي: لا، ولكن أقنعني يا شيخ بأن عملي هذا مخالف للشرع، حتى أغيّر من قناعتي. والمؤكد أن الشيخ القاضي لو دخل معه في حوار شرعي لإقناعه، فلن يقتنع النقيدان في ذلك الوقت، والسبب يعود لمدى تصلب بعض الأفكار المتشددة في الذهنية كون الذهن جعل قضية القضايا الفكرية تتمحور في مواضيع معينة، ولم يكن بمقدور الذهن أن يرى بقية القضايا، لأنها تحتاج لوسط وبيئة ومناخ مغاير لما هو عليه.
وبالفعل، فبحسب إفادة النقيدان، أنه حينما تغيرت بيئته وتم سجنه في زنزانة انفرادية وعزلة عن جماعته وعن الفكر الجمعي، بدأ ذهنه يناقش قضايا جديدة ويفتح ملفات لمواضيع ما كانت تأخذ حجمها. ومن هنا بدأت الإشارة الأولى للتغير الفكري تغزو عقله، وبدأت قضايا كانت صامتة الصوت تتكلم في عقله، وبدأت قضايا أخرى صاخبة الصوت تتقزم من أهميتها. وهكذا، دخل الذهن في حوارات مع نفسه، وبدأت الفكرة التي كانت متصلبة تتصارع بشكل منطقي مع فكرة مضادة، ومع الوقت تبلور الذهن على نحو معين، حيث الصراع بين الفكرة والفكرة مضادة، فتموت فكرة وتحيا فكرة جديدة إلى أن يصل الذهن لاستنتاجات معينة تعكس حالته الجديدة.
الحاصل، أن برنامج المناصحة لم تفد النقيدان في تراجعاته، وأن القاضي لو جلس معه جلسات عدة في النصح فلن تغير فكره، لكن تغيير البيئة هو من خلق آراء وقناعات جديدة.
في علم النفس هنالك معالجة نفسية تسمى بالعلاج السلوكي، تهدف لتغيير بيئة الفرد، وهو ما يحويه برنامج إدارة الوقت.
ومن هذا المنطق، فالذين يقعون فريسة لأسئلة مقلقة للذهن، مثل الأسئلة الوجودية، فلهم أن يبحثوا في الإجابة عليها بقدر ما في وسعهم، لكن عندما يصل الحال لحد الانزعاج والتيه والحيرة، فكل ما عليهم هو شغل أذهانهم بمواضيع أخرى كأن تكون مواضيع أدبية أو تاريخية أو علمية أو روايات، هذه المواضيع عندما يشتغل بها الذهن فإنها بشكل غير مباشر ستخفف ضغط وعنف الأسئلة الوجودية المربكة للذهن، وبالتالي ينزاح تحجر الذهن ويتحرر من عقاله.
وبالمختصر: غيّر بيئتك وغيّر أصحابك تتغير أفكارك وتتوازن نفسيتك. غيّر كتبك وأفلامك، تتغير طريقة تفكيرك ومشاعرك، فالشاب الذي لديه أفكار متطرفة ومرتبط بجماعة متشددة، حالما يغير بيئته وجماعته، كأن يسافر للخارج مثلاً، فإن أفكاره المتطرفة تأخذ في الزوال وتسبر في خط الاتزان.
إن عملية غسيل الدماغ ببساطة هي إجراء مقصود لتغيير أفكار وانفعالات الفرد من خلال وضع الفرد في ظروف محددة وبيئة مدروسة. الجميل في غسيل الدماغ أنها عملية ذات اتجاهين وسلاح ذو حدين، فيمكن أن توفر بيئة ومناخًا تزرع الشر والاضطراب في عقلية الفرد، ويمكن أن توفر بيئة ومناخًا مغايرًا تزرع الخير والصفاء والإبداع في عقلية الفرد.
نعم؛ بأيدينا نستطيع سجن عقولنا، وبأيدينا نستطيع فك عقولنا من سجنها.