د. حمزة السالم
سقوط روما نحو عام 410م، خلق فراغ سلطة أدخل مستعمراتها الأوروبية في الظلام لعشرة قرون تقريبًا. فما كانت الدول الأوروبية أن تكون، لولا الكنيسة الرومانية. فالكنيسة هي من أبقي الدول الأوروبية متماسكة، ليس بالدين فقط بل حتى سياسيًا وسلطويًا. فقد حلت سلطة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية محل سلطة الإمبراطورية الرومانية. فالنواب الرومان حل محلهم رهبان الكنيسة، والامبراطور الروماني حل محله البابا، وأخذ بناء الكنسية وتصميماتها، نفس شكل مجلس النواب والمحكمة الرومانية، وجعلت من روما -عاصمة الإمبراطورية الرومانية-، مركزاً لها، إلى اليوم (الفاتيكان). ولهذا سُميت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. فهي رومانية لأنها في روما، وكاثوليكية لأنها عالمية، فكاثوليك معناه العالمي.
وتغاضت الكنسية عن العبودية لأنها أقامت في أوروبا نظامًا اقطاعيًا قحًا. فالدول يحكمها أمراء وملوك يستمدون سلطتهم من الكنيسة، ويستمدون قوتهم العسكرية والمادية من النبلاء الذين يملكون الأرض التي يعمل فيها العامة، من الفلاحين والجنود والفرسان. فكانت العامة تمثل عبودية غالبة على السكان في أوروبا. فهم وإن كانوا أحرارًا يأخذون أجورًا على فلاحتهم وعمالتهم وقتالهم، إلا أنها كانت أجورا لا تكاد تطعم أطفالهم، الذين يموت ثلثهم بالمرض والفقر والجوع، قبل أن يصلوا مرحلة الرجولة. وكانوا يُعاقبون أشد من عقاب عبيد أمريكا السود، فمرة بالحرق وأخرى بالجلد والصلب حتى الموت، وذلك لمجرد اعتراض أو عجز عن دفع الضرائب، أو لوجود الإنجيل أو لوجود كتاب عند أحدهم. ولكيلا تصحوا العامة من غفلتها، ومن تبعيتها للكنيسة، مُنع الناس من القراءة حتى الإنجيل، فهم بذلك قد ساووا العبيد تمامًا. وبجهل الناس بالإنجيل وبقراءات الصلوات لأنهما كانا باللاتينية التي لا يحسنها إلا النخبة من الرهبان، وبشقاء العيش والظلم والمآسي، استطاعت الكنيسة أن تستعبد العامة، لأن الكنيسة هي الطريق الموصلة للجنة. وقد شقي عيسى وأمه وأصحابه وقتلوا وصلبوا، لأن الحياة الدنيا مرحلة شقاء عابرة، لتوُصلهم الكنيسة بعدها للجنة.
ولهذا ترى الفخامة والجمال في الكنائس الكاثوليكية، لأنها تصور للعامة حالهم في الجنة. ولأمية العامة، ترى الصور في الكنائس فكانت هي وسيلتهم لإيصال مفهوم العقيدة النصرانية ولمفاهيم الصراط والجنة والنار. وكانت الكنائس تحتوي على ما يزعمون أنها آثارًا مقدسة، كالدم المقدس، المنسوب لعيسى عليه السلام وككأسه المقدسة، وكنعال فلان وصحن علان، وكجمجمة القديس كذا، وقبر الحواري كذا، وفي هذا قال مارتن لوثر «كيف يمكن أن يوجد في ألمانيا وحدها ثمانية عشرة قبر حواري، وما كان لعيسى عليه السلام إلا اثنا عشر حواريا فقط.
فمتى تصورنا الوضع المظلم التي كانت تعيشه أوروبا، أدركنا حجم الصدمة التي أحدثها مارتن لوثر، بدعوته للتوحيد، ودعم مزاعمه بترجمته الإنجيل للألمانية، ومطالبة الناس بقراءته والبحث فيه، هل من أصل لما تزعمه الكنيسة من استعباد الناس وتوسطها بين الله وعباده. وهل في الإنجيل ما يدل على تزيين الكنائس والمغالاة فيها؟ أم أن ما في الإنجيل هو العكس تمامًا!
ولهذا منعت الكنيسة البروتستانتية الاعتراف بالذنوب للكاهن أو الراهب وطلب المغفرة منه، وطالبت النصارى بالتوجه إلى الله مباشرة. كما نفت دعوى الآثار المقدسة ودعت لهدمها وإحراقها. كما منعت الصور والتماثيل والذهب والزخرفة في الكنائس. لذا حُطمت التماثيل حتى تمثال مريم في الكنائس الكاثوليكية التي تحولت إلى كنائس بروتستانتية. كما أزيلت الصور والزخارف تمامًا، فمثلاً أكبر كنيسة في سويسرا، حطم الناس التماثيل حتى تمثال مريم، ومحو كل رسم فيها ونزعوا كل زخرف وزينة، وجعلوها صافية، وهي كذلك لليوم، وكذلك في هولندا أمثلة شاهدة على ذلك.
ومناصرة دعوة مارتن لوثر أو معارضتها، قد وجدت هوى عند الملوك والأمراء، كذلك. فمن عارضها فلأنه وجد فيها تشريع الانفصال عن سلطة الكنيسة، مما يسمح له بالتوسع أو الزواج أو الثراء. ومن عارضها فلأن نظام الكنيسة الإقطاعي كان مناسبًا له، وفي هذا قاتلت أوروبا بعضها بعضًا، حتى أن ثلث الألمان، قوم لوثر، قتلوا في عقد دموي واحد. فألمانيا كانت أول من اعتنق مذهب لوثر وانتصرت له ومكنت له، ولعل هذا يشرح تفوقها على الدول الأوروبية كلها منذ ذلك التحول إلى اليوم. فما استقلت ألمانيا وقام فيها ملك ألماني، إلا بعد دعوة مارتن لوثر.