د. محمد عبدالله العوين
علمني ابن عمي صالح العوين -رحمه الله- أول ضغطة على زر الكاميرا؛ لألتقط أول صورة له في حياتي، ويلتقط أول صورة لي بالأبيض والأسود!
كان ذلك قبل خمسين عامًا!
والله لم أدر أن كل تلك السنين مضت، لم أصدق بعد أنه مضى على عبثنا أو اكتشافنا جوانب من الحياة الحديثة والفرح بالحصول عليها كغنائم لا يحصل عليها كثيرون كالراديو والمسجل والكاميرا أكثر من خمسين عاما!
كنت محروما منها في ذلك الوقت أي في سنوات ما قبل عام 1390هـ وما بعدها بقليل؛ لكن صالح فتح عيني على عوالم مثيرة؛ الراديو بما يحمل في داخله من متع وأسرار وأخبار وحكايات، والكاميرا بما تصطاده من لحظات وما تدونه من مواقف وقصص وأحداث، وما تخلده من وجوه وملامح وأمكنة وذكريات، ومجلة العربي بما تقدمه في تحقيقاتها المصورة من اكتشاف ومتعة وما في مقالاتها من إثراء ومعرفة.
يتعامل صالح مع الكاميرا وكأنها كائن حي، يدللها، يحميها عن الشمس والهواء والغبار، يمسحها بين حين وحين بقطعة قماش نظيفة، يفتح بابها إن أراد بهدوء وأناة كي لا يتعسر، يغلقه كذلك برفق ومحبة كي لا يتمنع، يلف الفيلم على بكرة الكاميرا الداخلية وهو يرقب أين يصل ومتى يجب عليه أن يوقف امتداده إذا رأى استواءه بين البكرتين، كان يشعر أن كاميرته جزء من حياته أو هي مكملة لواجبات يومه، لا يمكن أن تكون معه بدون جرابها الأسود الذي يقيها من الشمس أو الغبار أو الأعين، يضع حبل جرابها الأسود على كتفه النحيل ثم يلفه على خصره تحت كتفه الآخر وكأنه يرتدي مسدسًا لا كاميرا.
علمني كيف أضغط على الزر فأعتقل اللحظة الهاربة، وأخط ملامح المكان وتعبيرات الجنان العميقة المنعكسة على صفحات الوجه، قال لي: حين تضغط الزر لا تسرع أو تتردد، ضع إصبعك على الزر المرتفع ثم اضغط بثقة وهدوء، وإن لم تفعل ستخرج الصورة مرتجة بسبب عدم ثبات جسدك أو ارتعاش يدك أو ترددك في قرار ضغطة إصبعك!
كم هو معلم كبير في تلك السن الصغيرة، لم يكن يكبرني إلا بسنوات قليلة، قليلة جدا، ربما كانت لا تزيد على أربع سنين، وكنت حينها في الثانية عشرة، لكن تلك السنوات الأربع الفارقة كانت تعادل فارقًا زمنيا طويلا من الإدراك والذكاء والاطلاع والحس الفني؛ فكان بالنسبة لي معلما في اكتساب مهارات كثيرة، منها ما هو فني كالتصوير وما هو مسل كلعبة الكيرم وما هو ثقافي كقراءة مجلة العربي!
في تلك السنوات ما كان في أحلامي أن أمتلك كاميرا ولا راديو ولا مجلة العربي، وما كان أيضا في غنى عن خدماتي، فكان مضطرا أن يدرب من يصوره، ويغري أيضا من يسليه، هو مستفيد؛ لكنني بلا شك كنت المستفيد الأكبر!
......يتبع