عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي:
كثيرا ما يستوقفني الكاتب والشاعر الأستاذ/ سعد الغريبي فيما يكتبه, خاصة في مجال (الرواية) وبما يمتلكه من ثقافة رفيعة المستوى, ومخزون لغوي واسع, وأفق رحب, ومقدرة فائقة على (التخييل) وظفها كلها واستثمرها توظيفا واستثمارا سليما في انتاجه السردي, الذي كان في طليعته روايته الأولى, الموسومة بـ(أحجار في قارعة الطريق) ثم روايته (بكالوريوس تربية يمنية), وآخرها روايته الصادرة هذا العام 2019م عن (قلم الخيال) بالرياض, الموسومة بـ(وطن الحب) التي هي محور حديثنا هنا.
ورغم بساطة هذا العنوان وتلقائيته لمن يطالعه للوهلة الأولى, غير أنه جعلني أؤمن لاحقا بمقولة: إن «وراء الأكمة ما وراءها»!!
فالراوي -وهو بطل القصة والشخصية الرئيسة فيها, المدعو سلمان- حين يغادر وطنه الأم, نتيجة تعرضه لأزمة مالية حادة, أثرت في حياته تأثيرا نفسيا واجتماعيا سلبيا, ورغم حبه لوطنه وأهله ومعاناته في البعد عن محيطه الاجتماعي الذي ولد وعاش فيه, ورغم ما يلاقيه من عناء الغربة ومتاعبها, إلا أنه يرى -فيما بينه وبين نفسه- أنه لا بد أن يعود إليه في يوم من الأيام, مهما كانت أسباب هجرته ونتائجها.
وقد تمثل البطل/ الراوي في أحد المواضع من فصول الرواية ببعض ما قاله شعراء العرب في (الوطن) مثل قول (شوقي):
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني اليه في الخلد نفسي
وقول شاعر آخر:
ولي وطن آليتُ ألاّ أبيعه
والاّ أرى غيري له الدهر مالكا.
الرواية: ص80
وكان إيراده لهذه الشواهد الشعرية نتيجة لقائه مصادفة بفتاة (لاتينية) على ظهر إحدى السفن الكبيرة في رحلة سياحية, وقد حكت له هذه الفتاة قصتها مع الهجرة, وأنها قد هاجرت من وطنها الأصلي (البيرو) الذي ولدت فيه لتعيش بصفة دائمة في مدينة (برشلونة) وأنها لا ترغب في العودة إلى وطنها الأصلي.
وهو يتعجب من أمرها, وتنكرها لوطنها الأم, مما يعني أن هاجس عودته لوطنه -في مقابل هذا التنكر الغريب للوطن- كان ولا يزال يلح عليه, وأن غيابه عنه لن يطول أكثر مما مضى, وأن العودة إليه أمر لا بد منه, مهما طالت غربته وبعده عنه.
في (وطن الحب) مآسي كثيرة, وغربات عائمة, بحجم تلك الباخرة العملاقة, المكونة من 18 طابقا, وهي تمخر عباب البحار, بما تحمله على ظهرها من آلاف السياح والمسافرين والمغادرين والمهاجرين لأوطانهم, إلى جهات معلومة وأخرى مجهولة, أو ليس لها وجهة معينة.
أناس من جنسيات وديانات وأعراق وثقافات شتى, لكنهم التقوا في الغربة على ظهر هذه الباخرة, وتشابهوا في معاناتهم تجاه الحياة, وربما اختلف بعضهم عن الآخر بتفاوت إحساسهم بهذه الحياة, بكل ما فيها من متناقضات, أو من حب وكره, وسعادة وشقاء! فلكل منهم قصته وحكايته, سواء تلك الفتاة (اللاتينية) التي التقاها (سلمان) أو غيرها من الشخصيات والقصص الأخرى, كقصة الإندونيسي (حسن) الذي التقاه الراوي في بداية الرواية على إحدى الرحلات الجوية, فجلس إلى جانبه في المقعد المجاور له, وحكى له -بمرارة وحزن وألم- قصة مغادرته لبلده (إندونيسيا) نتيجة خلاف أسري نشب بينه وبين أخته لظروف اجتماعية, أو كقصة (الفلبيني) المدعو (ألفونسو) الذي كان يعمل سائق شاحنة في (المملكة العربية السعودية) لعدة سنوات, لكنه ارتبط بقصة حب مع فتاة من بلده تدعى (روزا) فقرر العودة إلى بلده الأصلي, وانتهت قصتهما بالزواج, حيث تغلب هاجس الوطن وتباريح العشق -في مثل هذه الحالة- على الكدح والغربة ومتاعبها.