د. عبدالحق عزوزي
أقرت أكثر من ألف شخصية من 139 دولة منذ أيام وثيقة مكة المكرمة دستورًا تاريخيًا لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة ثانية.. فلا جرم أن هذا التوجه ضرورة حتمية وواجب أخلاقي وإنساني، وهو تعبير أصيل عن أبرز قيم الحضارة الإسلامية وسمات الشخصية الإسلامية المتوازنة. ويتطلب فضلاً عن التكافؤ بين الإرادات والتوفر على النوايا الحسنة، الاحترام المتبادل والالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات. ولا يعني احترام الرأي الآخر القبول به في المطلق، فقد أتفق أو اختلف معك، ولكن في النهاية الاحترام هو السائد.
ويفتح تحالف الحضارات المجال واسعاً أمام تفاهم الشعوب والجماعات، ويؤدي إلى تقارب الحضارات وتلاقحها، وينطلق من نقاط الالتقاء بدلاً من أوجه الاختلاف، في إطار الالتزام بالموضوعية والحياد عند تناول الآخر من النواحي كافة، والابتعاد المطلق عن تغيير الحقائق على نحو يشوه صورة الآخرين أو يسيء إليهم. وهذا اختيار العقلاء وسبيل يسلكه الحكماء ومسؤولية إنسانية مشتركة يتحملها بصورة خاصة، صانعو القرار والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية في العالم أجمع، من أجل المشاركة الجماعية في بناء السلام في الحاضر والمستقبل.
وأوصت الوثيقة بعدم التدخل في شؤون الدول مهما تكن ذرائعه المحمودة»، معتبرة ذلك «اختراقاً مرفوضاً، ولا سيما أساليب الهيمنة السياسية بمطامعها الاقتصادية وغيرها، أو تسويق الأفكار الطائفية، أو محاولة فرض الفتاوى على ظرفيتها المكانية، وأحوالها، وأعرافها الخاصة، إلا بمسوّغ رسمي لمصلحة راجحة».
وشددت الوثيقة على أن التنوع الثقافي والديني في المجتمعات الإنسانية «لا يبرر الصراع والصدام، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية، وتواصلاً فاعلاً يجعل من التنوع جسرًا للحوار، والتفاهم، والتعاون لمصلحة الجميع».
وأضافت أن التنوع الديني والثقافي «يحفز على التنافس في خدمة الإنسان وإسعاده، والبحث عن المشتركات الجامعة، واستثمارها في بناء دولة المواطنة الشاملة، المبنية على القيم والعدل والحريات المشروعة، وتبادل الاحترام، ومحبة الخير للجميع، مع احترام تعدد الشرائع والمناهج، ورفض الربط بين الدين والممارسات السياسية الخاطئة لأي من المنتسبين إليه».
ولقد كتبنا مراراً في هاته الصحيفة الغراء أن الصدامات والصراعات تسبب المآسي على مستوى الأفراد والشعوب، وتزرع الكراهية والنفور بين البشر، والبديل الأمثل للوقاية منها هو التعقل والحوار والتفاهم والتعايش السلمي واحترام حقوق الآخرين ومراعاة خصوصياتهم.
والإسلام دين سلام يعترف بجميع الديانات السماوية ويحترمها ويعترف بالأنبياء والرسل كافة. والحضارة الإسلامية جزء من الحضارة الإنسانية، تقوم على الوسطية والاعتدال والتعايش السلمي، والإيمان بالقيم المشتركة الثابتة، والتعاون والتفاهم المتبادل بين الحضارات، والتحاور البناء مع الديانات والثقافات. فنظريات مثل تلك التي تتحدث عن «صدام الحضارات» و»حرب الثقافات» هي خطابات خاطئة ومغرضة تنبني على سجن الأفراد والجماعات في انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية والحضارية، فلا يعقل أن تنمو وتتطور حضارة من الحضارات في معزل عن مكونات الحضارات والثقافات الأخرى.
ولا غرو أنه إذا كانت القيم الحضارية والقواعد المشتركة الإنسانية هي لبنات كل حوار مثمر وفعال، فإن في القيم الدينية المشتركة بين الإسلام وغيرها من الديانات السماوية ما يمكن لفتح الطرق أمام التجاوب والتعارف، وفي القيم الحضارية المشتركة ما يسمح لها أن تعيش في وئام ووفاق.
ويؤسس النص القرآني صيغة التعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي في آيات متعددة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. فإذا تساءلنا عن الأصول المنهجية لفقه التعارف المستوحاة من القرآن الكريم، ومرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي، فإننا نجد أن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف تؤكد على واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية، لأنها تمثل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه. أما ثانيها فهو أن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات في دائرتها الداخلية بجانبها الإيجابي الذي يدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعلمياً مع من يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، شرط ألا تتحول تلك المشاركة إلى عقيدة عصبية تأخذ مبدأ عدوانيًا تجاه الآخرين.