الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يعد الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة التي يوغر بها صدور الناس؛ لينفصلوا بعد اتحاد، ويتنافروا بعد اتفاق، ويتعادوا بعد محبة ووفاق.
وديننا الإسلامي يحثنا على التعاون والمحبة والمودة والائتلاف، والسعي إلى إصلاح ذات البَين الذي أخبرنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والتسليم بأنه أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، وهو من العبادات التي تركها كثير من الخلق، ورغبوا عنها، على الرغم من أنها عبادة عظيمة جليلة؛ ينبغي أن ينبري لها أهل العلم والفضل والجاه، وأهل الخير وعِلية القوم؛ وذلك لعِظم فضلها وأجرها، ولما يترتب عليها من المنافع للبلاد والعباد.
«الجزيرة» التقت عددًا من المهتمين وأهل الرأي في الإصلاح بين الناس لاستطلاع رأيهم في كيفية ترسيخ هذا المنهج الخيِّر لدى الناس الذين انشغلوا في مصالحهم لمعالجة الخصومات العديدة التي تقع بين الأزواج، وبين الأقارب والأرحام، والأفراد والجماعات في شتى مناحي الحياة.
سُبل الإصلاح
بداية يؤكد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار، عضو الإفتاء بمنطقة القصيم، أن الإسلام دين الإصلاح الكامل الشامل لجميع نواحي الحياة، في الأسرة، وفي المجتمع، وفي كل ما هو ضروري. الإسلام إصلاح مبني على عقيدة سليمة، وسُبل الإصلاح كثيرة وكل مسلم يُطلب منه أن يسهم بما يستطيعه منها؛ فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع من أعظم سُبل الإصلاح.. ووجود من يقوم بذلك في الأمة أمان لها من العذاب، أوما سمعتم قول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود من الآية 117]. إنَّ الاختلاف بين الناس والخصومة فيما بينهم أمر واقع، وله أسباب كثيرة، منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفس الأمَّارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، واشتباه الأمور والشكوك والأوهام، إلى غير ذلك من الأسباب التي تجتمع حينًا، وفي كثير من الأحيان تفترق؛ فينتج منها الخلاف، وتعظم الفتنة، ويجلب الشيطان بخيله ورَجِله؛ فيفرق بين المحب وحبيبه، والقريب وقريبه، والصاحب وصاحبه، والنظير ونظيره.. بل في بعض الأحيان بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، وبين الإخوة.
أمور تحتاج إلى معالجة
ويبيِّن د. الطيار أهم الأمور التي تحتاج إلى معالجة عن طريق الصلح، وهي كما يأتي:
1 - الخلافات الزوجية، وهي كثيرة في هذه الأوقات بسبب غياب الإنصاف من النفس. ولو أن المرء عامل امرأته والمرأة عاملت زوجها على أساس ما يحب كل منهما أن يعامله به الآخر لاستقامت الأحوال، وتغيرت الموازين.. لكن الأنانية المفرطة وحب الذات يجعلان الواحد منهما يطلب حقوقه كاملة، وينسى حقوق الآخر.
2 - الإصلاح بين أفراد الأسرة الواحدة، وخصوصًا بين الآباء وأبنائهم، والإخوة فيما بينهم.. وما أكثر ما تأن به البيوت من المشاكل، ومنها المستور، ومنها ما طفا على السطح. ولعل حب المال ودلال الأولاد، والاستماع إلى كلام النساء، وعدم متابعة البيت.. أهم الأسباب التي تغذي هذه المشاكل، وتجعلها تزيد يومًا بعد يوم.
3 - الإصلاح بين الشركاء.. فكم من شركاء دخلوا وهم أصدقاء متصافون، مالهم كأنه مال واحد، يتصرف الواحد في مال أخيه وكأنه يتصرف في ماله، ثم عصفت بهم المشاكل حتى تأزمت فكادت توصلهم إلى عتبات المحاكم.. فهؤلاء من أحق الناس بالإصلاح. فعلى مَن بلغه خبر أحد منهم أن يفزع للإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيل. وعلى المتخاصمَين أن يتقيا الله، وينصفا من أنفسهما، وألا يكذبا؛ لأنهما سيقفان في يوم عصيب أمام حَكَم عدل، يجازيهما بما كسبت جوارحهما. ووالله أيها الأحباب ما تدخلت في قضية وصدق أطرافها إلا يلتقون في النهاية ويتسامحون؛ لأن رائدهم الحق، وهدفهم الوصول إلى مالهم دون تعدٍّ على حقوق الغير.
4 -الإصلاح بين الجيران.. ومعظم خلافاتهم حول النوافذ، أو عبث الأطفال، أو يكون أحدهم متكاسلاً عن طاعة الله هو وأولاده، والآخر يؤدي واجب النصيحة؛ فينفر منه.. لكن ينبغي أن يتذكر أنه إن غلب في الدنيا بقوة حجته فلن يفلت في الآخرة أمام الجبار جل وعلا. وهنا اقتراح: على كل أهل حي أن يكون لهم لقاء شهري، أو على الأقل سنوي، يتدارسون فيه شؤون الحي وقضاياه وخصوصًا الأولاد ومشاكلهم، ومَن يأتي إليهم ويذهبون معه.. وبهذا تتسع دائرة المشورة، وتتلاقح الآراء والأفكار، ونصل -بإذن الله- إلى مستوى أفضل في توجيه الناشئة ورعايتهم.
بناء السلم الاجتماعي
ويشير الدكتور عبدالله بن صالح الحمود أستاذ العلوم الاجتماعية إلى أن الإسلام اهتم بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين، وأخذها بعين الاعتبار؛ وذلك لأن المؤمنين بشر؛ يخطئون ويصيبون، ويعسر أن تتفق آراؤهم أو تتوحد اتجاهاتهم دائمًا؛ ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءًا من مرحلة المشاحنة والمجادلة، ومرورًا بالهجر والتباعد، وانتهاء بمرحلة الاعتداء والقتال. والإسلام دين يتشوف إلى الصلح، ويسعى له، وينادي إليه. وليس ثمة خطوة أحب إلى الله - عز وجل - من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين، ويقرب فيها بين قلبين.. فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن، وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة.
وتأتي أهمية الإصلاح كمحور أساس لإصلاح ذات البَين بين الأفراد والجماعات لرأب الصدع الاجتماعي. من هنا يمكن القول إن الإصلاح تشريع لبناء السلم الاجتماعي بين أفراد المجتمع. وزيادة بتعريف ماهية الإصلاح، ومدى أثره الإيجابي، نطرح بعض النقاط الداعمة لهذا السياق بما يأتي:
1 - الإصلاح عبادة جليلة وخُلق جميل، يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو خير كله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128].
2- بالإصلاح تكون الأمة وحدة متماسكة، يعز فيها الضعف، ويندر فيها الخلل، ويقوى رباطها، ويسعى بعضها في إصلاح بعض.
3- بالإصلاح يصلح المجتمع، وتأتلف القلوب، وتجتمع الكلمة، وينبذ الخلاف، وتزرع المحبة والمودة.
4- الإصلاح عنوان الإيمان لدى الإخوان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10].
5- إذا فقد الإصلاح هلكت الشعوب والأمم، وفسدت البيوت والأسر، وتبددت الثروات، وانتهكت الحرمات، وعمَّ الشر القريب والبعيد.
6- الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه رجل قاسي القلب، قد فسد باطنه، وخبثت نيته، وساء خُلقه، وغلظت كبده؛ فهو إلى الشر أقرب، وعن الخير أبعد.
7- المصلح قلبه من أحسن القلوب وأطهرها، نفسه تواقة للخير مشتاقة، يبذل جهده ووقته وماله من أجل الإصلاح.
ويضيف د. الحمود بأن دعوة الناس للإصلاح بينهم هي لتحقيق ذات البَين بينهم قدر المستطاع، ووجوب فهم ذات البين وصاحبة البين.. والبين في كلام العرب يأتي على وجهين متضادين:
1- الفراق والفُرقة ومعناه:
إصلاح صاحبة الفرقة بين المسلمين بإزالة أسباب الخصام والتسامح والعفو؛ وبهذا الإصلاح يُذهب البين، وتنحل عقدة الفرقة.
2- الوصل ومعناه:
إصلاح صاحبة الوصل والتحابب والتآلف بين المسلمين، وإصلاحها يكون برأب ما تصدع منها،
وإزالة الفساد الذي دب إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا.
الكريم لا يحقد
وتبيِّن الدكتورة عواطف بنت عبد العزيز الظفر الأستاذ بجامعة الملك فيصل بالأحساء أن من أخلاق ديننا العظيم هو نشر المحبة والمودة والألفة بين الناس، وزوال الأحقاد والضغائن من النفوس. وما أحوج الناس اليوم إلى هذه الخصال الحميدة، وإلى هذا الخلق العظيم في زمن كثرت فيه الخصومات والنزاعات؛ فلم يسلم منها الأقارب فيما بينهم، ولا الجار مع جاره، ولا الأصدقاء.
إنَّ التنازع مفسدٌ للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات. وليس هناك أي أمة، سواء الآن أو في الماضي، عاشت على النزاعات والفرقة كسبت شيئًا:
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...... (46) سورة الأنفال.
ولا شك في أن الكريم لا يحقد ولا يحسد.. وإن بلغه عن أخيه ما يكره التمس له عذرًا لعلمه أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الأحقاد، ويزيل الصدود.
فهنيئًا لمن أجرى الله الخير على يديه؛ فجعله سببًا للم شمل قد تفرّق، وإنهاء فُرقة دامت سنوات.
الأثر العظيم
واستهلت د. شيمة بنت إبراهيم العتيبي مستشارة التنمية المستدامة حديثها بقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ . والشريعة الإسلامية عندما تدعو إلى أمر فهذا دليل قطعي على ضرورة ذلك الأمر في حياة البشر؛ لما له من الأثر العظيم في حياة الفرد بشكل خاص، وفي حياة المجتمع بشكل عام؛ فهو مطلب للمحافظة على التآلف والتراحم، وعلى سلامة الأرواح من الفساد والهلاك.. فإذا فقد الإصلاح هلكت الشعوب، وفسدت البيوت، وتبددت الثروات، وانتهكت الحرمات، وعمّ الشر، وانتشر الفساد.
فالإصلاح عنوان المؤمن، ومسار يستقيم به كل ما اعوج، ويصلح به كل ما فسد، ويقوم به كل ما سقط.. فبه يصلح المجتمع، وتجتمع الكلمة، وتتآلف القلوب، وتنتشر المحبة، ويعم السلام، وينعم المجتمع بالاستقرار.. وبه تقوى الأمم، ويعز فيها الضعف، ويندر فيها الخلل، ويقوى فيها الترابط؛ فتصبح حصنًا قويًّا ضد كل حاقد وحاسد وعدو.
ومن عظيم صفات المصلح أن قلبه من أطهر القلوب وأنقاها؛ فنفسه تواقة لعمل الخير دائمًا، يبذل كل ما يستطيع من جهد ووقت ومال لأجل الإصلاح رغبة في خلق التآلف والمحبة، وطمعًا فيما عند الله.. وعند الله الجزاء الأوفر؛ قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) سورة النساء.
وقال تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. آية عظيمة، تجعلنا نعفو ونتسامح طمعًا فيما عند الله، وليس هناك شيء يعادل وعد الله لنا بالأجر في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. فالتسامح والتغاضي من أجلّ الصفات وأسماها؛ فهما راحة للنفس، ومحبة تتنزل عليك من الآخرين، وأجر عظيم، تناله من رب العالمين.