رمضان جريدي العنزي
هي (الرياض) تسبح في دمي، طفولتي هي، نشيدي ورسمي وسنين مجدي، أحن إلى حواريها القديمة، أحن إلى بيوت الطين فيها والخشب، أحن إلى رائحتها، إلى ناسها، إلى ممراتها الضيقة وتعرجات دروبها، ما ضاقت بنا تلك الدروب، ولا تلك البيوت الصغيرة، ركضنا بها طويلاً، لعبنا طويلاً، تمرغنا بأتربتها كما يتمرغ الطفل بالتراب، ننام بسعادة، ونستيقظ بسعادة هاربين بعجل لرؤية بعضنا، نحمل أحلامنا، ولنا ضحكات عالية لا تجف، نرسم هلام خيالنا في سلة إصرارنا، وأفقنا كحيل مثل ربيع، وأرواحنا تحوم حول بعضها بوئام، ودوائرنا على بعضها غير مغلقة، نعيد تنظيم شتاتنا ونتحد بسلام، نمطر بعضنا بالحب، ونعطي بعضنا إشارات السعادة، ما طوقنا السهد، ولا عرفنا الأرق، وما سمعنا بالقلق، نضحك بملء الفم، ونلاحق فراشات النار حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة، تطوف أرواحنا نحو النجوم، وننثر للقمر بعض الكلام، وإذا ماجن الليل تداعب أجسادنا نسمات عابقة، نشتاق للغائب، ونبحث عن قدومه في التقاويم العتيقة، لنا خيالات فارهة، ونضفر جدائلها بالمنى، ولقلوبنا إيقاعات نافرة بالود، ونكتب على الجدران بخطوط متعرجة حنيننا وشوقنا، بنفسج كانت ساحاتنا، ونحن فيها مثل قبرة هائمة تبحث عن عشها في ربيع مخملي، لنا وهج، مثل سحابة هاطلة، ووجوهنا طافحة بالبشر، ومثل غيوم الصبح نوايانا واضحة، فوانيسنا شاحبة لكنها ترشح بالنور، في ليل الحواري تلك تخف أقدام المارة، وتأوي صرخات الرضع، لتنام بهدوء في المهود، ومن على السطوح نخاطب القمر، نحدثه عن الفراق والقلق، وعن بقايا قصص عتيقة، القمر كان عندنا مجرى الحلم، وتناسل البوح، وخفايا السحر، كنا صغار ننظر من شبابيكنا الصغيرة عن غيوم محملة بالمطر، نهذي بعض الكلام، في أعماقنا ملامح شعرية، منسوجة من شمس ومطر، حتى الشفق كان جميل له شعاع يشبه الذهب، يغمرنا الدفء أينما ذهبنا وأينما حللنا، قاماتنا تزهو بالنبل والهدوء، وعلاقاتنا الاجتماعية عالية، أنظر في لوحة الماضي طويلاَ، معرشة هي لوحتة في حبور الطفولة، يهطل علي الماضي بألوان تشبه نكهة النعناع، وإيقاعه أحلام براري فسيحة، حين تتبرعم نباتاتها بالألوان الزاهية، نناجي نجيمات الصباح، وعندما نستقبل غائباً تنساب من مآقينا دموع معتقة بالملوحة، أشتاق للماضي كأني صديقه الأزلي، أتصفح صوره، لتستقر في عمق الروح، وفي بؤبؤة العين، عاشقاً أنا للرياض وأحيائها العتيقة لا تبارح مخيلتي، مطلقاًا تبارح مخيلتي، أرحل معها، فرحاً مجنحاً بأريج الريحان، الماضي طاقة كامنة في النفس العاشقة، يوقظ في الروج الحنين، إلى تلك الدور البسيطة الغافية على تلال الماضي الدفين، حيث الناس كانوا مثل إشراقة صباح، ومثل هدوء غسق، يقومون فجراً، يهللون، ثم يذهبون في طريقهم إلى أحضان الحياة، كم هي صور الماضي الجميل ترد إلى روحي لتوقظها من خدرها الطويل، أطير معها مثل نسر نحو قبة الحنين، حيث عناقات الطفولة تفور في أوج العبور، يعشب الروح، ويسقي الذاكرة.