د. محمد بن إبراهيم الملحم
الأسئلة الموضوعية Objective Tests (الاختيار من متعدد) لم تكن خيرًا على التعليم في الولايات المتحدة كما يراه عدد من الكتاب المناهضين لها حيث ينسبون إليها نشوء ظاهرة «التدريس للاختبار» Teaching for the test مما أدى إلى انخفاض مستويات التعلم لدى الطلاب وأخفقت الولايات المتحدة في تحقيق مراكز متقدمة في المقارنات الدولية لمجالي العلوم والرياضيات بل إن بعضهم يعزو قلة ظهور العلماء والمخترعين لديهم مؤخرًا إلى هذا السبب! كما أن أحد الكتاب الأمريكان المرموقين Ainissa Ramirez يشير في مقالته «التاريخ الأسود لأسئلة الاختيار من متعدد» أن أول من استخدم هذا النوع من الأسئلة وهم الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الأولى (لقبول وتصنيف 1.7 مليون متقدم للخدمة) اكتشفوا لاحقًا أن نتائج هذا الاختبار لم تكن ذات قيمة عالية كما توقعوا، ومع ذلك واصل التعليم الأمريكي استخدامها! وقد أشرت سابقا إلى انتشارها لدينا نهاية السبعينات الميلادية وربما أن أول من أحضرها هم أساتذة الجامعات الذين درسوا بأمريكا ثم تسللت إلى مدارس التعليم العام لما وجده فيها المعلمون من سهولة تصحيح وتخلص من الجهد بالإضافة إلى أن الطلاب يحققون نتائج عالية من خلالها مما يرفع أسهم المعلم لدى إدارة المدرسة، ولكن يبدر السؤال هنا: لماذا يهتم المعلم بتحقيق ذاته من خلال نتائج عالية غير حقيقية؟ تلك قصة وعدتكم بها اليوم، وهي تعود إلى ممارسة ظهرت تلك الفترة هي المقارنة بين نتائج المدارس والثناء على المدارس التي حقق طلابها نتائج عالية، هذه المقارنة بين المدارس جعلت مديري المدارس يحرصون على جذب ثناء الإدارة التعليمية، وطالما أن الثناء ينال من حقق طلابهم نتائج عالية فقد ظهر في لغة المدير مع معلميه نقد من كانت علامات طلابه منخفضة، والثناء على من حقق أغلب طلابه العلامات العالية، وألفت الانتباه إلى أن عملية القيادة الإشرافية التربوية تقتضي أن تؤخذ نتائج الطلاب في الحسبان كمؤشر لجودة التدريس وهذا حق فكلما قل عدد المخفقين دل ذلك على الجهد الذي بذله المعلم ولكن لهذا الأسلوب الإشرافي مداخل «نوعية» تجعل استخدام النتائج نافعًا وفعلاً... بيد أن ما حصل هو تركيز على الجانب الكمي فقط مما جاوز الحد المعقول ودخل في مساحة المظهرية الجوفاء، فلم تكن الجوانب النوعية في تقييم نتائج اختبارات الطلاب على الأجندة أبدًا (بل هل يفقهها جميع المديرين أصلا: وشرحها يطولهنا) ولقد وعى المعلمون الرسالة بل إنهم اكتشفوا مع الوقت أنها في صالحهم فتحقيق الطلاب الدرجات العالية من خلال الأسئلة الموضوعية التي ظهرت بنفس الفترة هو أمر أيسر لهم من مكابدة الأسئلة المقالية وتصحيحها المزعج والوقت الطويل الذي تحتاجه، لقد جاءت الأسئلة الموضوعية في الوقت المناسب فتزامنت الظاهرتان معا لتتكالبا على جودة تعليمنا بطريقة محكمة جدًا.
هذه المقارنات الكمية العمياء بين نتائج الاختبارات فعالة حتى يومنا هذا بل بات من المسلمات والبدهيات أن المعلم الذي يحقق عددًا واضحًا من طلابه درجات منخفضة (مثلا 30 إلى 40% منهم) هو محل نظر وينبغي توجيهه، وربما مراجعة أسئلته، بينما من يحقق كل طلابه على الدوام ولسنوات متعددة وفي جميع الفصول علامات كاملة (حتى لو كانت مادته صعبة كالرياضيات أوالعلوم أو اللغة الإنجليزية) فلم نسمع أبدًا أن أحدًا تجرأ أن يبحث أمره، بل أكاد أجزم أنه لو حاول مدير مدرسة ما (أو مشرف تربوي) أن «يتفلسف» في هذا الأمر فلن تكون مهمته يسيرة بل ربما يتعرض للمصاعب الرسمية، ولا أصف هذا الأمر قدحًا في أمانة المسؤولين التربويين ولكن لأني أدرك أن أغلب الموجودين منهم اليوم استقر في وعيهم (بعد إرث سنوات طويلة من الثقافة التي وصفتها) أن هذا اجتهاد شاذ وممارسة غريبة لم تعهد من قبل، لذا فهي مرفوضة ابتداء.
ما أسباب الاهتمام برفع نتائج الطلاب بهذه الطريقة؟ سأحكي لكم المقالة القادمة شيئًا عن مرض الدبلوما Diploma Disease المسبب الرئيس لهذا الوباء التربوي «العالمي» وملامح أخرى.