«الجزيرة» - وحدة الأبحاث:
وتُعد المملكة من الدول النفطية الكبرى، التي تمتلك حصصًا كبيرة في احتياطيات النفط الخام بما يوازي 18 في المئة من الاحتياطيات العالمية، كما تمتلك حوالي 4.0 في المئة من احتياطيات الغاز الطبيعي العالمية.. ومع ذلك، فإن الحديث عن النموذج الاقتصادي السعودي الحديث بدأ يتشكل بعيدًا عن سياق الدولة النفطية إلى رؤى مختلفة ومغايرة تتضمن توليفة متنوعة من الأجنحة لإيرادات جديدة.
فقد تصدر المشهد اليوم رؤية 2030 ومشروع نيوم الإستراتيجي وغيره من المشروعات العملاقة، يتخللها أنظمة وقواعد جديدة تقوم على الشفافية واللافساد.
ملامح النموذج الاقتصادي السعودي الحديث ورؤية 2030
إن السعي لتوصيف النموذج الاقتصادي السعودي تعد مهمة صعبة، وقد تتسبب في كثير من الجدل، وتنبع الصعوبة من عدم وجود شكل محدد الملامح لهذا النموذج.. فالنموذج الاقتصادي السعودي قد تبلور من رحم رؤية 2030، وسار في طريق استغلال الفرص ونقاط القوة التي يكتسبها الاقتصاد الوطني من واقع أي فرص أو مستجدات.. فاعتماد الاقتصاد الوطني بشكل كبير على الإيرادات النفطية، عزا به إلى التغير مع تغير الأسعار العالمية للنفط، فأي تقلب سياسي إقليمي أو عالمي غالبًا ما يترك أثرًا جوهريًا على أسعار النفط، وهذا التأثير غالبًا ما يتمثل في ارتفاع في هذه الأسعار العالمية، بشكل يحقق للاقتصاد السعودي إيرادات حكومية عالية.
اقتصاد السوق.. والانفتاح على العالم الخارجي
تأخذ المملكة بقواعد السوق الحر في الواقع العملي.. فالإنتاج والأسعار والعرض والطلب جميعها تحكمها قواعد السوق بلا تدخل من الدولة.. فقوى العرض والطلب هي التي تحدد سعر أي سلعة أو خدمة.. بل إن الدولة تتبنى نوعًا من الانفتاح على العالم الخارجي في صادراتها ووارداتها وحتى قطاع الاستثمار يسير حسب رؤية منفتحة، سواء كتدفقات للخارج أو الداخل.
النمو الاقتصادي المستدام.. والتنمية البشرية
تتبنى الحكومة السعودية منهجًا عمليًا متحفظًا في إنفاق الإيرادات الحكومية المتاحة في ضوء الارتفاعات المتكررة لأسعار النفط في الفترات الماضية، فهذه الارتفاعات يفترض أنها عَودت الاقتصاد الوطني على أحجام ضخمة للإنفاق، وبالتالي أوجدت هياكل إنفاقية متسعة، وتوجد مخاوف كبيرة نتيجة انتكاسة هذه الهياكل إن انخفضت أسعار النفط العالمية في أي وقت مستقبليًا.. لذلك، فإن الإدارة الحكومية بالمملكة تركز على إيجاد مسارات للنمو الاقتصادي المستدام، القادر على تعويض النقص في الإيرادات الحكومية في أي وقت مستقبلاً.. لذلك، فإن أعلى نسبة إنفاق حكومي جاءت على مر الثلاثين عامًا الماضية خصصت لتنمية الموارد البشرية، حيث ارتفع حجم مخصصات الإنفاق على التعليم الموارد البشرية من 26.2 مليار ريال في عام 1981م إلى حوالي 200.3 مليار ريال في عام 2017، أي أنها ارتفعت بما يعادل 665 في المئة.. ولعل حجم المخصص للإنفاق على تنمية الموارد البشرية بالمملكة أصبح يفوق حجم الإنفاق الحكومي الإجمالي في ميزانيات كثير من الدول العربية.. بشكل يبرز مدى الاهتمام الحكومي بإيجاد البنية التحتية البشرية القادرة على قيادة النمو الاقتصادي في حال تراجعت أسعار النفط في أي وقت.
التنويع الاقتصادي القائم على البتروكيماويات
رغم أن النفط هو المصدر الرئيس للقلعة الصناعية السعودية.. ورغم ما يقال عن دولة المصدر الوحيد، إلا أن المملكة أحرزت نجاحًا غير مسبوق في صناعة التكرير، والتي بنيت عليها أكبر قلعة تصنيع للبتروكيماويات بقيادة سابك. فهي تصنيع حقيقي، يتطور من عام لآخر، وهذا التصنيع يمكن أن يكون هو المسار الناجح لتوجه التصنيع السعودي، فهو أساس التميز النسبي والتنافسي.. ولا يعيب الاقتصاد أن يكون اقتصادًا نفطيًا.
مدينة المستقبل
نيوم هو المشروع السعودي الأول لمدينة جديدة مخطط بناؤها كمدينة عابرة للحدود، أطلقه الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد السعودي. ويقع المشروع في أقصى شمال غرب المملكة، ويشتمل على أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، حيث سيوفر العديد من فرص التطوير بمساحة إجمالية تصل إلى 26.500 كم2، ويمتد 460 كم على ساحل البحر الأحمر. ويهدف المشروع ضمن إطار التطلعات الطموحة لرؤية 2030 بتحويل المملكة إلى نموذجٍ عالمي رائد في مختلف جوانب الحياة، من خلال التركيز على استجلاب سلاسل القيمة في الصناعات والتقنية داخل المشروع وسيتم الانتهاء من المرحلة الأولى لـ «نيوم» بحلول عام 2025م. تم دعم المشروع من قبل صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 500 مليار دولار، والمستثمرين المحليين والعالميين.
تنافسية المشروع
كون المشروع سيقع على أراض داخل الحدود المصرية والأردنية، يعني أن المنطقة تقع على البحر الأحمر وخليج العقبة وبالقرب من ممرات بحرية تجارية عالمية معتمدة وستكون بوابة لجسر الملك سلمان المقترح الذي سيربط بين مصر والسعودية. ويتميز المشروع بأنه يمكن لـ 70 في المئة من سكان العالم الوصول للموقع خلال 8 ساعات كحد أقصى.
ملكية نيوم.. ملكية سعودية
تم الإعلان عن أن صندوق الاستثمارات العامة السعودي هو الجهة التي ستمتلك نيوم بالكامل، ونظرًا للثقة والقدرات الهائلة التي يمتلكها الصندوق، فإنه سيسهل جذب استثمارات من شركات وأفراد. والجديد أن نيوم تطرح منذ البداية كمشروع خاص وليس حكوميًا، حيث تم الإعلان عن النية والتخطيط المسبق لإدراج مدينة نيوم مستقبلاً في الأسواق المالية بجانب شركة النفط العملاقة أرامكو، لتكون نيوم حلقة جديدة وأساسية من حلقات برامج الخصخصة في المملكة.
استثمارات بحوالي 500 مليار دولار في نيوم
الفكرة الإستراتيجية لنيوم تقوم على أن هذه الشركات والأفراد السعوديين (كمستثمر وطني) هم الذين سيبدأون في بداية سلسلة النجاح والتحريك والحث الاستثماري لمشروع نيوم المستقبل. فصندوق الاستثمارات العامة من المتوقع أن يهيئ البنية التحتية الرئيسة للمشروع، ثم يبدأ في طرح أراض أو قطع استثمارية ذات أولوية للمشروع حسب مخططات محسوبة على شركات وأفراد سعوديين.
ونعتقد أن هذا الطرح سينال القبول وستتنافس عليه الشركات والأفراد المحليون نظرًا لجاذبية المشروع وتحوله من مشروع محلي لمشروع عابر للحدود.
هذه الخطوة الأولى أشبه بطرح المساهمات أو المخططات العقارية.
النجاح غير المسبوق في إصدار الصكوك
تتوالي إصدارات الثقة في الاقتصاد الوطني من فترة لأخرى، فبعد نجاح الإصدار العالمي للصكوك، يحقق الإصدار المحلي نجاحًا لافتًا للنظر، إنها مؤشرات لقوة الاقتصاد الوطني، على المستويين المحلي والعالمي.
فقد نجحت المملكة في برنامج الإصدار العالمي للصكوك، منذ العام 2017 عندما طرحت في ذلك الوقت إصدارًا دولاريًا من الصكوك بقيمة 9 مليارات دولار، وتجاوز الطلب العالمي على هذه الصكوك المقومة بالدولار الأميركي، قيمة 25 مليار دولار، أي تجاوزت القيمة المكتتب فيها حوالي 270 في المئة من القيمة المطلوبة، وقد كان هذا الإصدار الأضخم في تاريخ سوق الصكوك.
ورغم قوة هذا الإصدار ودلالاته، إلا أن بعض المراقبين كان يحلو له أن يعتبر نجاحه مرتبطًا بتوافر السيولة بالسوق العالمي، وأنه برهن بكل قوة على مدى الثقة العالمية في الاقتصاد الوطني. إلا إنه لم يعطِ دلالات على الثقة في السيولة المحلية أو في رغبتها في الاستثمار بالسوق المحلي.
من هنا يأتي الإصدار المحلي ليثبت من جديد أن مدى ثقة السوق المحلي بأفراده وشركاته في واقع الاقتصاد الوطني الجديد في ضوء رؤية 2030، بل إنه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك توافر السيولة بالسوق المحلي الزائدة والكافية لضخ 51 مليار ريال في صكوك بالريال السعودي، رغم أن حجم الإصدار قد تم تحديده بمبلغ إجمالي 17 مليار ريال، وبنسبة تغطية بلغت 300 في المئة.
إننا نتساءل أي اقتصاد يستطيع الاكتتاب بمثل هذه المبالغ الضخمة سواء ما تم في عام 2017 أو ما تلاه في عام 2018 دونما التأثير على عرض النقود أو دونما يحدث هزة داخلية نتيجة فقدان جزء كهذا من السيولة.
هذه الإصدارات تمثل نجاحًا لمكتب إدارة الدين العام ضمن مكونات رؤية المملكة 2030، ودوره المهم في تأمين الاحتياجات التمويلية للخزينة العامة للدولة بأفضل الطرق والأدوات الممكنة وبأقل التكاليف المتاحة، وبشكل يتماشى مع أهداف برنامج التوازن المالي، وبما يدعم أسواق المال في المملكة.