د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يبلغ المرءُ في عمره ما يجعل كفة من عرفهم تميل بمن فقدهم، وما اكتسبه تفوق ما احتسبه، وما رآه تتجاوز ما قرأه، وما يأمله أقلَّ مما يتأمله، وفي هزيع الحياة الأخير تزداد العودة إلى الأمس ويحلو الصوت بالهمس، ويسهل التراجع ويندر التنازع، ويملُّ الحياةَ من يحسبها بمسافات الاسترخاء أو بمعادلات الاستيفاء؛ فهي إلى الكبَدِ أقرب، وواقعيةُ «منتصف العمر» تُعقلنُ ولا تُشيطن، وتشير ولا تثير.
** كذا تُقرأُ سيرةُ المطمئنّ، وبذا توثق مسيرته؛ هدوءٌ لا يشوبه عصفٌ ولا يشينه ضعف؛ يترفعُ عن الدنايا والأدنين، ولا يدخل في حوار الصاخبين، ولا يُحمِّل ذمته وزر الكذب والتكاذب؛ فإن حكى صدق، وإن كتب دقّق، وإن تعامل ترفق، وإن حكم أنصف غيره ولم يدخل في هرج الغوغاء ومرج السفهاء.
** أما مناسبةُ هذه المقدمة فالبرامج الحوارية التي تمتلئُ بها الإذاعات المسموعة والمرئية؛ فهي أيسر البرامج إعدادًا وأضألها استعدادًا وفي الوقت نفسه أقواها فعلا وأكثرها تفاعلا، وقد أتاح «رمضانُ» أنماطًا منها؛ شاء بعضُها التلميع المبالِغ، واحتفى سواها بالنجوم السواطع، ومال غيرها إلى كشف السوءات والسيئات، واتجهت أنواعٌ نحو الذكريات، وتوقفت أخرى عند الأموات، وكذا أُتيح لمن تنقل بينها أن يرى كبارًا لم يصغروا وصغارًا لم يكبروا، وإضاءاتٍ ذاتَ معنى، وإضافاتٍ دون مبنى، فتساقطت أقنعة، وتعرَّت أدمغة، وتاه فيها من يتخطون المنهج فيُضيعون المخرج.
** وأما الحكاية فتحتاج إلى أن يتحقق الحاكي كما المحكي معه أو عنه مما رواه العلم يومًا وسيكرره دومًا أنْ «لا شيءَ يفنى كما قاعدة الفيزيائيين لكنه يتحول»، وأن الكلام وإن «طار به الهواء» فلِكي يُثير الغبار أو ينثر النضَّار وليوثق الموجود أو ينبش المفقود ولو تجاهله صاحبُه أو افترض جهل الآخرين به؛ فهل فكر واحدُنا بساعاته الأخيرة وهو يُملي آخر سطرٍ في حياته، وبجانبه من يقرأ عليه كتاباتِه ويُسمعه تسجيلاته ويطلب رأيه فيما يود إبقاءه للتأريخ أو حذفه منه؛ فماذا سيدع وماذا سيضع؟ وكم هم الذين سيُوارُون نتاجهم الثرى قبل أن يُوارَوا معه، وإذ لن يأبهَ «العدميُّون» الذين يرون أننا جئنا من «اللا شيء» ونتجه إلى مثله فغيرهم سيهتم ويغتم، وقد أوصى الكاتب المصري محمد جلال كشك 1929-1993م أن تدفن إلى جانبه ثلاثةٌ من كتبه وهي: «ودخلت الخيل الأزهر»، «السعوديون والحل الإسلامي»، «وقيل الحمد لله»؛ فماذا عنا؟ وما هي كتاباتنا وأصواتنا التي سنفرُّ إليها وتلك التي سنفرُّ منها؟!
** هنا تتبدى للجميع حنكةُ ما قبل منتصف العمر وحكمة ما بعده؛ سواءٌ أكتبوا أم استَكتبوا، قابلوا أم قُوبلوا، غردوا أم دوَّروا، دعَوا أم استدُعوا، أُجِروا أم استُؤجروا؛ فالغد الأقرب موعدٌ لن يرأفَ بمن ظنوا العناوين المثيرة والنجومية العريضة و»الخوض مع الخائضين» منجاةً أو حتى ملهاة.
** النهاية بداية.