د.شريف بن محمد الأتربي
أحياناً يمر الصائم بمرحلة يتخيل فيها أشياء ليست من الحقيقة في شيء ولكنها من نسج خياله الذي طغى عليه الجوع والعطش واعترى عقله رغبات كثيرة تتصارع فيما بينها في محاولة كل منها أن تسيطر على وجدانه، وقد كنت ضحية إحدى هذه المراحل ففي لحظة تخيلت أن صراعًا قد نشب بين الكتاب المطبوع والكتاب الإلكتروني من أجل البقاء وقد حشد كل منهما فرسانه وأسلحته للدفاع عن نفسه والقضاء على الآخر إن لزم الأمر فالمعركة ليست مجرد دفاع ولكنها معركة بقاء وتطور.
وقف الفريقان على جانبي طريق المعرفة والثقافة فإذا الورقي قد أحضر معه أقلامه بكل أنواعها وممحاته وأيضًا مكتباته وكتابه وقراءه ولم ينس أن يحضر ناشريه وطُباعه، بينما أحضر الإلكتروني برامجه ومستودعاته وصيغه الإلكترونية.
تظاهر الإلكتروني بأنه لا يرى المطبوع ولا فرسانه وأخذ يزهو بنفسه بخيلاء قائلا: أنا ابن التقنية أنا مستقبل الطباعة أنا لا أمثل أي عبء على المؤسسات فيكفي فلاش ميموري أو هارد أو حتى مستودع رقمي صغير ليكون فيه ملايين مني، أنا لا أحتاج صيانة ولا يعتريني التلف ولا لجان جرد ولا ترتيب رفوف، أنا حر طليق في أجواء السحابات الإلكترونية، أنا موجود في كل جهاز في أي مكان لا أمثل أي حيز لقارئي، ضغطة زر تظهرني وأخرى تُخفيني، أعطي حرية لمن أراد أن يضع علامات خاصة به بين سطوري ولا تؤثر على غيره، نسخي لا محدودة بل أنا نسخة واحدة منتشرة بالملايين في كافة ربوع العالم.
تعصب المطبوع وشمر عن أوراقه صائحًا: من أنت لتحدثني بهذه الطريقة؟ أنا وقلمي وأوراقي أصل من أصول الحياة، سجلنا التاريخ وحفظناه، نشرنا العلم والمعرفة في ربوع العالم، أمسك بي واحتضني علماء لا عد لهم ولا حصر نهلوا من معارفي وطوروها ومن خلالها جاءت ذريتي بالآلاف، قيمتي العلمية لا تضاهيها، أما المادية فلن تصل إليها، فأنت لا تساوي إلا ثمن الموقع المستضيف لك ولا فرق بينك وبين أي موقع فمثلك بالملايين يكتبك أي شخص عالما كان أو جاهلا، لا قيمة لك ولا أصل.
أحتد النقاش وتدخل العقلاء يحاولون الصلح بين الطرفين فإذا بالمعركة تشتد فيلقي الإلكتروني بالماء على بعض الفرسان ويشب النار في بعضها الآخر فتضيع المعرفة وتتلاشى مع تصاعد الدخان، وفي لحظة دانت السيطرة للإلكتروني إذا بأحد مناصري المطبوع يطلق فيروسًا إلكترونيًّا فيلقف كل ما هو منشور فتضيع المعرفة وتتلاشى أيضًا وفي لحظة كادت تقضي على الأخضر واليابس عاد الطرفان إلى وعيهما واتفقا على أن يتعاونا في مقصدهما وأن يحافظا على ما بين دفتيهما بالرضا وعلى المستفيد أن يختار ما يروي ظمأه ويناسب إمكانيته فلا يطغى أحدهما على الآخر، وفي لحظة كتابة عقد الصلح يؤذن للمغرب فتصيح زوجتي: الفطار جاهز لتبدأ المعركة من جديد فلا منتصر اليوم.