مكة المكرمة - «الجزيرة»:
انطلقت في مكة المكرمة أعمال المؤتمر العالمي «قيم الوسطية والاعتدال» واللقاء التاريخي لإعلان وثيقة مكة المكرمة، الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-، بمشاركة أكثر من 1000 من العلماء والمفتين وكبار المسؤولين في العالم الإسلامي.
ورحب خادم الحرمين الشريفين بحضور المؤتمر في العاصمة المقدسة في بركات هذا الشهر الفضيل، حيث اجتمع شرف الزمان والمكان، وقال -حفظه الله- في كلمة ألقاها إنابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة مستشار خادم الحرمين الشريفين: «لقد حالفكم التوفيق والسداد باختياركم؛ قيم الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنة، موضوعاً لمؤتمركم الموقر. تلك القيم التي قامت عليها المملكة العربية السعودية، التي لا تزال تؤكد هذا المنهج ودوره في حماية بلادنا العزيزة وتحقيق أمنها ورخائها ومنعتها في مواجهة كل محاولات اختطاف المجتمع -يميناً ويساراً- عن هذا الوسط العدل الذي جاء به ديننا الحنيف، والتأكيد على نقاء الشريعة الإسلامية من كل فكر دخيل عليها، إيماناً بأن الدين شرع مطهر وليس رأياً يرتجل، وأن كل رأي ليس معصوماً في المطلق مع تقديرنا للاجتهادات المسندة بالأدلة القاطعة لعلماء الأمة ومفكريها التي أثرت العلوم الإسلامية والإنسانية».
وأضاف -حفظه الله- مخاطباً حضور المؤتمر: «لقد أدانت المملكة أشكال التطرف والعنف والإرهاب كافة، وواجهتها بالفكر والعزم والحسم، وأكدت براءة الإسلام منها، وطالبت بأن تسود قيم العدل المجتمعات الإنسانية كافة، وأخذت على عاتقها العمل على نشر السلام والتعايش بين الجميع، وأنشأت لذلك المراكز والمنصات الفكرية العالمية».
وقال: «إننا في المملكة العربية السعودية، وانطلاقاً من التزامنا بهدي الشريعة في أفقها الوسطي المعتدل، ومن مسؤوليتنا الإسلامية عن قدسية القبلة الجامعة ومهوى أفئدة المسلمين، نجدد الدعوة إلى إيقاف خطاب العنصرية والكراهية أياً كان مصدره وذريعته، كما ندعو إلى الإصغاء لصوت الحكمة والعقل، وتقبل مفاهيم التسامح والاعتدال، مع تعزيز ثقافة التوافق والتصالح، والعمل على المشتركات الإسلامية والإنسانية، فعالم اليوم أحوج ما يكون إلى القدوة الحسنة -التي نقدمها نحن المسلمين- والتي تعمل على نشر الخير للبشرية جمعاء، تحقيقاً لرسالة ديننا».
وختم خادم الحرمين الشريفين كلمته -رعاه الله- بالإشادة بالجهود التي تبذلها رابطة العالم الإسلامي، أداءً لواجبها الكبير نحو رسالتها الإسلامية والإنسانية، داعياً الله -تعالى- أن يتكلل المؤتمر بالنجاح.
وفي كلمة خلال الافتتاح، قال فخامة رئيس جمهورية الشيشان السيد رمضان أحمد قديروف: «أتوجه بالشكر الجزيل إلى خادم الحرمين الشريفين، وإلى أخي العزيز ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- على الرعاية الكريمة لهذا المؤتمر، وعلى جهودهما الكبيرة في خدمة الإسلام والمسلمين، والشكر موصول أيضاً للأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين».
وأضاف فخامته: «كما أتوجه بالشكر إلى رابطة العالم الإسلامي وعلى رأسها معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، هذا الرجل الذي يبذل مجهودات كبيرة، والذي زارنا في روسيا وفي الشيشان خاصة، وكان لزيارته، وللمؤتمر الذي عقدناه معاً نتائج إيجابية عديدة، مؤكداً أن المملكة العربية السعودية تحت قيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز تعمل على توحيد المسلمين، ولمّ شملهم، كما ترفع راية محاربة التطرف والإرهاب، وتعمل جاهدة لنشر القيم الإسلامية الصحيحة، وقد كانت المملكة، وما زالت، وستبقى -إن شاء الله- حاضنة المسلمين وقبلتهم، ولذا فإنني من هنا أدعو المسلمين في العالم إلى الوقوف صفاً واحداً مع المملكة العربية السعودية، وإلى نبذ الخصومات والنزاعات وأسباب التفرق والتباغض، إننا اليوم بحاجة لأن نتعاون معاً يداً بيد، وبشكل لا مثيل له في التاريخ»، مضيفاً «يجب على كل من يهاجم المملكة أن يعرف بأنها لن تكون وحيدة أبداً، بل ستكون معها مليارات المسلمين الصادقين، ونحن أولهم».
وتابع: «لقد حصلت في جمهوريتنا الشيشان حروب طاحنة دمرت وأهلكت كل شيء أتت عليه إلى أن وقف والدي العزيز الشيخ أحمد قديروف -رحمه الله- وتقبله في الشهداء في وجه المتطرفين والتكفيريين والإرهابيين، وارتكبوا أبشع الجرائم، باسم الإسلام، وقد وقف الشيخ أحمد قديروف في وجه هؤلاء الإرهابيين في زمانه بكل شجاعة، حاملاً قيم الإسلام في الرحمة والوسطية والتعايش والاعتدال، فنقل الشيشان من الجحيم إلى النعيم، ومن التخلف إلى التطور والازدهار، ونحن الآن نكمل السير على منهجه السديد الذي أوصلنا إلى العيش الأمن الرغيد».
وشدد الرئيس قديروف على أن الإرهاب لا دين له، وقال: «إننا نرفض بشدة كل الاتهامات الموجهة إلى الإسلام بالإرهاب، ونرفض كذلك الاتهامات الموجهة إلى الأديان الأخرى بالإرهاب، وإنني أدعوكم إلى مكافحة ومحاربة الإرهاب هذا الداء الخطير بشتى الوسائل».
كما أكد سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية، رئيس هيئة كبار العلماء الرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء رئيس المجلس الأعلى للرابطة، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، أن من خصائص الدين الإسلامي الحق أن يكون ديناً وسطاً بين الغلو والجفاء ديناً عدلاً لا ظلم فيه ولا إجحاف، تنصف جميع أحكامه وتشريعاته بالاعتدال والتيسير بعيداً عن الغلو والعنت والمشقة والحرج، وأن الأمة التي تدين بهذا الدين حقاً هي أمة وسط خيار ليس فيهم إفراط ولا تفريط.
وشدد سماحته أن نصوص الكتاب والسنة تضافرت على تقرير مبدأ الوسطية والاعتدال في هذا الدين الذي جاء لهداية البشرية جميعاً، فجاء في كتاب الله -عز وجل- أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أمة وسط خيار بين الأمم، قال تعالي: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143) سورة البقرة).
وأكد أن من مقتضيات الوسطية اليسر والتخفيف في تشريعات الإسلام، إذ اكتسبت تشريعاته وأحكامه صفة اليسر والتخفيف ورفع المشقة والحرج، وقد ظهر هذا الوصف في جميع الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات وغيرها، كما ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- المتنطعين في الدين ووصفهم بالهلاك، فقال: «ألا هلك المتنطعون». قاله ثلاث مرات.
وقال: «إن كان هناك من حاد عن هذا المنهج الوسط قديماً وحديثاً فإنما هم من المتنطعين الذين أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم هم الهالكون والمنحرفون عن الجادة المستقيمة، إما بغلوهم وإفراطهم أو بتفريطهم وتقصيرهم».
وأضاف سماحة المفتي: «وقد جاء هذا المؤتمر المبارك الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، لتجلية هذا الأمر الهام وبيانه وتسليط الضوء على خفاياه وتفاصيله».
من جانبه، أكد معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى فخر الرابطة العالم الإسلامي، بحضور هذا الجمع العلميّ المتميز في رحاب القبلة الجامعة، ومظلة الإسلام والمسلمين برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود «حفظه الله».
ونوّه إلى كثرة الأطروحات حول قيم الوسطية والاعتدال، لكنها كانت، ولا تزال بحاجة إلى إبرازها ببيان علمي، يستعرض النصوص ويوضح دلالاتها، ويكشف أوهام أو تعمّد اجتزائها، ويبيّن الأخطاء والمزاعم والشبهات في تأويلها أو التقولّ عليها.
وأوضح معاليه أن الفكر الإرهابي لم يقم على قوة عسكرية، بل على أيدلوجية متطرفة استغلت المشاعر الدينية غير المحصنة فكان من أثر شرورها ومجازفاتها ما أصبح محل اهتمام العالم بأسره، وما نتج عنه في تصور البعض من إساءة خاطئة للإسلام والمسلمين.
واستطرد الدكتور العيسى: «ويبقى السؤال كيف نشأ هذا الفكر ولماذا تمدّد وانتشر وما سبب تحميل الإسلام ضلاله؟ على حين لم تحمّل ديانات أخرى تبعة الممارسات المتطرفة والإرهابية لبعض المحسوبين عليها»، مضيفاً «نعود لنقول مع أهمية تجلية هذا الأمر من خلال مؤتمر بهذا الحجم في سياق شرف زمانه ومكانه وقامات حضوره إلا أنه بحاجة إلى وثيقة تاريخية تصدر من القبلة الجامعة تحمل في مضامينها بلاغاً للعالمين».
وشدد على أن من مفاهيم التسامح ما تدعو إليه حكمة فقه الموازنات والأولويات مع حفظ ثابت الدين كما حصل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، إضافة إلى ما تدعو إليه قواعد سد الذرائع، وما يتولد عن التفريق الصحيح بين ما كان متعلقاً بشأن الأفراد وما كان في الشأن العام، وفي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} (159) سورة آل عمران.
ولفت إلى أن كل نص شرعي يمر بمرحلة الفهم عنه، ثم الاستنباط منه، ثم التنزيل عليه، فإذا شاب أياً منها خطأٌ نشأ عنه خلل بحجم جسامة الخطأ، منوهاً إلى أهمية أن يوضح الفرق بين الدين والتدين، وبين العالم وحامل العلم، وفك الارتباط بين الاحتياط والتشدد، وبين ما يوصف بأنه تشدد محسوب بالاجتهاد الخاطئ على الفقه الإسلامي وبين التطرف الفكري.
وختم معاليه بتقديم الشكر للحضور الكريم على تلبيتهم دعوة رابطتهم؛ رابطة العالم الإسلامي، حيث يلتقي اليوم عامة مفتي وعلماء ووزراء الشؤون الدينية في العالم الإسلامي والمجتمعات المسلمة في الدول غير الإسلامية.
وفي السياق، نوّه معالي الشيخ العلامة عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، بانعقاد هذا المؤتمر تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، وإشراف مباشر من أمير منطقة مكة الأمير خالد الفيصل، في هذا الشهر المبارك وعند بيت الله الحرام، مضيفاً «وهو أمر ليس بغريب ولا جديد على هذا البلد الذي خصه الله برعاية الحرمين الشريفين والعناية بحجاجه ومعتمريه من كل المذاهب الإسلامية والأعراق الإنسانية من دون تفريق ولا تضييق».
وأضاف: «أيها السادة إن الوسطية هي ناموس الأكوان وقانون الأحكام، وهي ميزان الشريعة الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ميزان ينبذ الغلو والخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال ويرفض المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب».
بدوره، أكد فضيلة الشيخ الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية، أن المملكة العربية السعودية لها من المكانة السامية المرموقة في قلب كل مسلم وعربي ما يعجز اللسان عن وصفه، إذ هي أرض الحرمين الشريفين التي بعث فيها الحبيب المصطفى والنبي المجتبى -صلوات الله وسلامه عليه-، حيث مكة المشرفة مهبط الوحي الشريف ومجلى أنوار الرسالة المحمدية، ومحطّ نظر العناية الربانية، ومنبع النور الذي سرى من الحرمين الشريفين إلى أركان العالم كله.
وتطرق فضيلته إلى ما تتعرض له المملكة قيادة وشعبًا، والمنطقة بأسرها، من حملات إرهابية إجرامية، وهجمات مغرضة شرسة، على الصعيدين الداخلي والإقليمي، تقف وراءها قوى شر متآمرة، ترفع راية الشر والدمار والإرهاب، وتدعم تلك الجماعات الإرهابية بالمال والسلاح، مؤكداً أن الوقوف إلى جانب الحق والخير والوسطية، الذي ترفع رايته السعودية، ودول المنطقة كافة التي لم تتورط في دعم الإرهاب، فرض عين وواجب على كل مسلم، وهو أيضًا واجب أخلاقي ومبدأ إنساني، تدعمه دول المجتمع الدولي بموجب المواثيق والعهود الدولية الداعمة والمؤيدة للخير والسلام.
وأكد أن ما يتمخض عنه المؤتمر العالمي المهم من جهود وبحوث وتوصيات، ليصلح أن يكون نقطة ضوء وطاقة نور ننطلق منها لنعمل من أجل الإسلام، ومن أجل مكافحة الإرهاب، ومن أجل العمل على تحسين صورة الإسلام مما علق بها بسبب جماعات الإرهاب والعنف.
من جانبه، قال مفتي الجمهورية اللبنانية فضيلة الشيخ عبداللطيف فايز دريان: إن هذا المؤتمر العالمي يأتي في رحاب مكة المكرمة، حيث قبلة العرب والمسلمين، ومن أرض المملكة العربية السعودية مملكة الحزم والعزم والخير والعطاء، الحريصة والمؤتمنة على القضايا العربية والإسلامية المحقة، بتوجيه كريم ومباشر، من حامي الحرمين الشريفين، الحريص على رفعة وعز الأمتين العربية والإسلامية.