إعداد: الدكتور ناصر بن سعود بن عبدالله السلامة
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى-
الشيخ العالم العلامة الفهامة عبدالرحمن بن عبدالله بن سالم، من كبار علماء الحاضرة النجدية، باحث في الفقه الشرعي، وقاضٍ في كثير من بلدان نجد، إلى أن انتهى به المطاف -عليه من الله شآبيب العفو والمغفرة والرضوان- إلى تولي قضاء الدلم، حيث قضى فيها بين الناس بالعقل والحكمة والدين، ثم انتهى به المقام، وختم به المقال إلى وفاته بها، راضيًا مرضيًا عنه -إن شاء الله- هو عالم كبير حنبلي المذهب، وُلد في بلدة منفوحة، ديرة الشاعر الجاهلي الأعشى، صاحب القصيدة الشعرية الرنانة الجميلة:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟
وهي من عيون القصيد الجاهلي.
وقد شحت علينا المصادر التي بين أيدينا بتحديد تاريخ ميلاده، غير أنه على الأرجح والأصوب من كلام سدنة العلم، وأرباب التاريخ، أن ميلاده كان في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، وُلد -عليه رحمة الله- في هذه البلدة الواقعة جنوب الرياض، حيث أصبحت الآن حياً من أحياء منطقة الرياض - عمَّرها الله - وحينما وُلد لم يكن في فيه ملعقة ذهبية علمية، لكنه جدَّ واجتهد، وانكبَّ ينهل من علماء منفوحة عصارة علومهم، وأول ما بدأ كان ذلك بحفظ القرآن الكريم غيباً، حيث حفظه على يد المقرئ الشيخ عبدالعزيز بن رضيان، ثم شمر وكافح وعاصر المدلهمات في تحصيل العلم الديني، والفقه الشرعي، من علماء نوابغ أفذاذ أفراد منهم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، ومنهم الفقيه القاضي حسن بن حسين بن علي بن حسين آل الشيخ، ومنهم أيضًا الفقيهان محمد بن إبراهيم بن محمد، وعبدالله بن حسين بن أحمد المخضوب.
ثم تتلمذ على يديه مشايخ نجباء كالشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن عبدالرحمن الشعيبي، والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله بن حميد، والشيخ موسى بن هجهوج الغيثي.
هذا، وقد كان - رحمه الله - المرجع والمقصد في كل من القضاء والفتوى والتدريس والوعظ والخطابة في كل بلدة يرخي زمام التطواف فيها، فأضحى بذلك من كبار علماء نجد، وصار له - كما مرَّ بنا قبل برهة - تلاميذ وأتباع ومريدون، يشار لهم بالبنان، حيث قصده هؤلاء الأعلام ليغرفوا من بحر علمه الزاخي المتلاطم الأمواج، كما كان الناس أيضًا يسألونه ويستفتونه، فيجيب بعلمية وكمية وكيفية دالة على طول باعه في العلوم الشرعية، هذا العالم وجهت له أسئلة فقهية عديدة، تعد من مراجع الفقه والحديث الشرعيين، وهي مبعثرة في كتب العلم، فجاء الدكتور النابه القدير ناصر بن سعود بن عبدالله السلامة - قاضي الاستثنائف بوزارة العدل في بلادنا العامرة المملكة العربية السعودية - حرسها الله - ليجلو الصدأ، وينكث غبار الأيام عن هذه الفتاوى، فماذا فعل؟ يقول - حفظه الله - في مقدمة الكتاب: وقد تتبعت ما صدر عنه فوجدته جديراً بأن يفرد في كتاب مستقل، ليعم الانتفاع به، وقد جمعت ما وجدت له في هذا الكتاب وسميته مجموع رسائل وفتاوى الشيخ الفقيه القاضي عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد بن سالم النجدي المتوفى عام 1350هـ، وقد بينت في هامش كل رسالة أو فتوى المصدر الذي اعتمدت عليه في نشرها من مخطوط ومطبوع).
والسؤال المهم الطارح نفسه على معد الكتاب وجامعه، كيف وجد هذه الفتاوى؟ أو ما هي سماتها وخصالها وشمائلها؟ يقول - حفظه الله - (بعث -رحمه الله- ببعض الرسائل التوجيهية للناس، كما وجهت له العديد من الأسئلة الفقهية، فأجاب عليها بأجوبة سديدة موفقة، وقد تميز أسلوبه بالوضوح وجودة العبارة، وإعطاء المسألة حقها من البحث من غير إطالة مملة، ومن غير إجازة مخلة).
وقد كان للشيخ عبدالرحمن بن سالم في الحديث اليد الطولى، حيث قال معد الكتاب وناسجه في المقدمة ما ماهيته: (وقد حكم على بعض الأحاديث صحة وضعفاً، ويستشهد في بعض المسائل بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وفقهاء الأمة).
وقدم جامع الكتاب الدكتور ناصر السلامة - حرسه الله - للكتاب بمقدمة وفية ووافية، استعرض فيها البنود العلمية الآتية:
(أولاً: اسمه ونسبه، ثانياً: مولده ونشأته، ثالثاً: مشايخه، رابعاً: تلاميذه، خامساً: أعماله، سادساً: وفاته، سابعاً: ذريته، ثامناً: الثناء عليه).
وحق كل الحق أن هذه البنود الثمانية تحتاج من قارئ الكتاب، والناظر فيه إلى وقفة تأمل وتبصر، فهي جامعة مانعة، كتبت بتسلسل دقيق، وترتيب أنيق، وهذه المحطات الثماني طالما استوقفتني كمتذوقة للكتاب، وناهلة من معينه، أقول: استوقفتني كثيراً، لاسيما أن الشيخ العلامة، والعلامة عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد بن سالم الخالدي ليس له مصنفات مكتوبة، ومؤلفات معروفة، مما جعل ورود اسمه في كتاب العلم يأتي قليلاً نزراً -إن صح هذا التصور- وإلا فحقيقة الحكم على هذا التصور ومدى صحته من خطئه وضعفه في ذمة ناسخ الكتاب، الدكتور القاضي ناصر بن سعود بن عبدالله السلامة -حفظه المولى جلّ في علاه- غير أن مهام هذا العالم وأعماله تنبيك -أيها القارئ الحصيف- على مكانته العلمية، ومنزلته التعليمية، فقد درس -رحمه الله- في بلدته ومسقط رأسه، ومرتع أمره منفوحة، كان هذا حاله فيها، وحاله أيضًا في كل بلد يحل فيها يرشد أهلها، ويقضي بينهم، كما تولى القضاء في بلدان شتى مثل: الأرطاوية، وفريثان، ودخنة، ووادي الدواسر، وأخيراً في الدلم الكائنة بمحافظة الخرج، وهي البلد التي ألقى التسيار فيها، حينما توفي فيها، وكان ذلك في عام 1349هـ، وقيل: في عام 1350هـ. ومن أعماله أيضًا الإفتاء والإرشاد، ففي عام 1333هـ وجهه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله أثره وثراه - إلى الإخوان ليرشدهم، فأحسن الإرشاد، ومكث بينهم زمناً، ومنها أيضًا تولى الخطابة في كل بلد يصل إليها، ثم تولى نظارة جامع منفوحة الجنوبي في فترة من فترات ذلك الزمن السالف.
والجدير بالذكر عند تناول السيرة الغيرية لهذا العالم الجليل ملمح إجادته وتفوقه في علم الفرائض، أشار إلى هذا الباحث النبيل راشد بن محمد ابن عساكر -يحفظه الله- في كتابه «منفوحة في عهد الدولة السعودية الأولى والثانية»، حيث قال: (له عناية في علمي التاريخ والبلدان، وكان طلبته في منفوحة يقرؤون عليه في الفرائض وكتب التفسير كالبغوي وابن كثير، وكتب الحديث كالبخاري والترمذي والنسائي، كما عُرف عنه إجادته لعلم الفرائض على الأخص)، كذلك من الأعلام العلماء الذين أثنوا على حصيلة الشيخ عبدالرحمن بن سالم، الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالعزيز العنقري المتوفى سنة (1377هـ)، حيث كتب تقريظاً جامعاً مانعاً على فتاوى الشيخ ابن سالم جاء فيه: (يعلم من يراه بأني قد أشرفت ما أملاه الأخ المكرم الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن سالم فرأيته بالصواب كفيلاً، موافقاً للحق والدليل).
وقد ألمحت هذه التقديمة الجميلة للشيخ ابن سالم إلى خُلقه الكائن في علمه الشرعي، وحصيلته الفقهية الحديثية الفرائضية، وأما رسم خِلقته فكما جاء في مقدمة ترجمة الشيخ عليه من الله وابل الرحمات: (كان رحمه الله ضخم الجسم، جهوري الصوت، كفيف البصر في آخر حياته، يشبه في جسمه الشيخ محمد بن ردن البداح - حفظه الله).
ومن الجدير بالذكر أيضاً الإشارة إلى باحثين حديثين ألمحوا إلى ذكر الشيخ عبدالرحمن بن سالم، وهما: الأستاذ الباحث راشد بن محمد بن عساكر في كتابه: «منفوحة في عهد الدولتين السعودية الأولى والثانية» كما مرَّ بنا سلفاً في بند ثناء النابهين للشيخ ابن سالم، والباحث الأستاذ عبدالعزيز بن ناصر البراك، في كتابه «علماء وقضاة الدلم»، وبهذا يحق علينا القول إن هؤلاء الباحثين البحاثين الثلاثة الدكتور السلامة، والأستاذين العساكر والبراك، مدوا للشيخ عبدالرحمن بن سالم يداً قصر غيرهم عن مد مثيل لها لهذا الشيخ الجليل.
وهذا الكتاب أخرجه باحث متمكن، وطبعه رجل ممكن وهو سبطه ابن بنته الأستاذ إبراهيم بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن سالم صاحب شركة التقوى للتربية والتعليم والتدريب، فجزاه الله عن جده الشيخ أمثل وأطيب الجزاء.
ومسائل الكتاب التي أجاب عليها الشيخ -رحمه الله، فهي كثيرة جمة عديدة وقد حوى الكتاب بين إهابيه ست عشرة رسالة، وهي الآتية:
1- إذا كان لرجل على رجل أجرة من مكيل أو موزون.
2- إلى سليمان بن عبدالله.
3- إلى شاهر ومفضي وعبيد وعتيق ومن عندهم من الإخوان.
4- إلى صالح بن راشد.
5- إلى الأمير علوش بن سقيان وسلمان بن عبدالله.
6- إلى عبيد بن جاد الغرابي ومزيد بن زيدان.
7- إلى عيد بن جاد الغرابي.
8- إلى مبارك بن سبيل.
9- إلى مبروك السلمي.
10- إلى أهل مبايض.
11- إلى متعب بن عبدالمنعم بن ناشي.
12- إلى مزيد بن زيدان.
13- إلى مقبل أبا الصافي ومنصور بن خلف.
14- إلى منصور بن خلف.
15- إلى كافة أهل الهجر.
16- فتاوى.
وأول ما يفاجئك أثناء قراءة الرسائل، وتأمل مسائلها الدينية، دماثة الشيخ في تعامله مع المرسل إليهم، فهو يتودد إليهم، ويدعو لهم، ويسلم عليهم، في دعوات زاكية جميلة يغلب عليها أسلوب السجع، مما يظهر تراثية علم الشيخ عبدالرحمن ابن سالم وثقافته الدينية الأصيلة المؤصلة، وأما لغة الإجابة على المسائل التي سئل -رحمه الله- عنها فهي لغة علمية فقهية مفصلة توحي لك بتبحر الشيخ في علوم الشريعة من فقه وحديث وأصول وغيرها، وهي لغة قائمة على أصول النحو العربي، لغة عالم صحيح اللسان، طلق السليقة لا لحن ولا عجمة فيها.
وهذه الرسائل الست عشرة حوت مسائل عدة ربت على المائة والخمسين مسألة، تظهر سلفية الشيخ وتتلمذه على كتب القوم مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن النسائي والترمذي، وكتب ابن كثير والبغوي سيّما في التفسير، ومنهجية الشيخ ابن سالم في الإجابة على المسائل العلمية الموجهة لفضيلته شديدة الشبه بأسلوب ابن تيمية - عليهما الرحمة والغفران، في فتاويه الحافلة، وكتبه الأخرى مثل السياسة الشرعية وغيرها، ثم هو حاذق بفقه الإمام أحمد، مستشهد بأقواله، آخذ بآرائه.
وقد خدم الكتاب بفهارس دقيقة مستوعبة، مثل فهرس الأحاديث والأعلام والموضوعات، كما خدم أيضاً بتخريجات موثقة لأحاديث المسائل الشرعية التي سُئل الشيخ عنها فأجاب.
وآخراً بعد الأخير، رحم الله فارس مضمار هذه الرسائل والفتاوى، ونضر الله وجه جامعها، وأسبغ الخير على ناشرها، ومَنَّ على قارئها بنفع حريري، وغرم سندسي، وعلم استبرقي.
** **
عنوان التواصل: ص ب 54753 الرياض 11524
hanan.alsaif@hotmail.com