د. علي بن فايز الجحني
انتقل إلى رحمة الله اللواء الدكتور فهد بن أحمد الشعلان في يوم الخميس الموافق: 11-9-1440هـ تاركًا في قلوب محبيه حزنًا وحسرة، لن يمحوهما الزمان، والفقيد عرفته عن قرب، وزاملته في الغربة أيام الدراسة، ثم عملنا معًا لسنوات طويلة.
ترجّل من قطار الحياة بعد أن دوَّن في سجل الخالدين خدمات مشرفة، وأعمالاً جليلة خدمةً لدينه، ثم مليكه ووطنه، وإني أعزِّي فيه أبناءه وأسرته وزملاءه وأصدقاءه، وطلابه.
كان رحمه الله يتمتع بشخصية فذة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، عرفته بدايةً في كلية الملك فهد الأمنية، وربطتنا علاقة أخوية أثناء فترة الابتعاث للدراسة، وبعد أن عملنا معا في جامعة نايف العربية لسنوات امتدت حتى رحيله.
كان -رحمه الله- من الكفاءات الوطنية المتميزة، رجل عصامي مثابر تخرج من كلية الملك فهد الأمنية بالبكالوريوس ملازمًا، ثم واصل دراسته وحصل على البكالوريوس في العلوم الإدارية من جامعة الملك سعود، والماجستير في إدارة الموارد البشرية من أمريكا عام 1405هـ، والدكتوراه في الإدارة العامة من جامعة بيتسبيرغ عام 1411هـ، وتدرج في الرتب العسكرية إلى رتبة لواء ومن المناصب التي تقلدها: مدير عام كلية الملك فهد الأمنية، ومدير أكاديمية نايف للأمن الوطني، وعميد كلية التدريب في جامعة نايف، وألف العديد من الكتب، وعشرات الأبحاث العلمية المحكمة، وحصل على جوائز، وناقش وأشرف على عشرات الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) وتم انتخابه نائبًا لرئيس الاتحاد الدولي لأكاديميات الشرطة، وترقى إلى مرتبة أستاذ دكتور «بروفيسور» فكان ثاني عسكري في المملكة يحصل على هذه المرتبة العلمية، ونال العشرات من الأوسمة وميداليات التقدير وشهادات الشكر، وكأن لسان حاله يقول.
دببت للمجد، والساعون قد بلغوا
جهد النفوس وألقوا دونه الازرا
فكابدوا المجد حتى مل أكثرهم
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
كان بيننا محاورات ومثاقفات ولطائف علمية أيام الدراسة حول أيهما الأصل والأقدم في العلم والممارسة حقل علم الإدارة، أم علم السياسة؟ كرسنا جهودنا سويًّا وزملاء آخرين لترسيخ العلوم الأمنية، كعلوم، حيث كانت مجرد خبرات وتجارب ومحاضرات، وأفكار في ذاكرة الممارسين للعمل الأمني، وفي هذا السياق كان نعم الأخ والمشجع عند صدور أي كتاب أو دراسة لي، لأنه كان من المقتنعين بالتأصيل وبتدريس العلوم الأمنية من خلال مساقات علمية على يد كوادر علمية وعملية مؤهلة، مع اهتمامه الشديد بالتدريب والدبلومات النوعية المتخصصة، وبرامج الابتعاث الداخلي والخارجي.
كان رحمه الله بين حين وآخر يكتب في مجلة اليمامة وغيرها مقالات رائعة، تحمل ومضات فكريّة مضيئة ولفتات ذهنيّة ممتعه بأسلوب عفويّ مشوّق، يكشف عن مشاعره وتجاربه الغنية منها ذات العناوين التالية: «المدير واتخاذ القرار، تفويض السلطة بين الإقدام والإحجام، موظف القرن العشرين، هذيان وأضغاث أحلام، العصا والجزرة، الموظف والتلميع الساطع، الطبخة التدريبية، لإكمال اللازم، الطالب المسلوق والطالب المحروق»، وغيرها..
بعد حصولي على جائزة مسابقة اتحاد جامعات العالم الإسلامي، وجائزة جامعة الملك سعود في الأمن الفكري اتصل بي مهنئًا، ثم بعث خطابًا رقيقًا مشجعًا ومباركًا، وهذا ديدنه، فهو إنسان لا تشغله أعباء المراكز الوظيفة التي تبوأها عن التواصل مع الناس، ومع زملائه، كان مرحًا ومحبوبًا، لا تمل من الجلوس معه، وأذكر أن طلاب الجامعة حضروا إلى مكتبي ذات مرة يرجونني أن أشفع لهم عنده لتدريس شعبتهم، وأعلم أن هذا زيادة عبء إضافي عليه فوافق، ومفتاح شخصيته التواضع والتحفيز والتشجيع للجميع، كما أنه كان محاورًا ماهرًا، شغوفًا بالتدريس لم ينقطع عنه حتى أثناء تكليفه بأعباء إدارية، وتخرج على يديه آلاف الطلاب من الدارسين المدنيين والعسكريين ولله در القائل.
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من
الذي يبني وينشئ أنفسًا وعقولا
وكان من المقررات والمواد التي يدرسها: الإدارة العامة ونظرياتها، إدارة الأزمة (عراب علم إدارة الأزمات) القيادة الإدارية، مصطلحات إدارية وغيرها.
لقد أثرى رحمه الله المكتبة الأمنية العربية بالإصدارات العلمية والمقالات، وصمم دورات وحلقات تدريبية، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية من الماجستير والدكتوراه، وشارك في الكثير من اللجان والملتقيات والندوات والمؤتمرات عربيًا ودوليًا، ومثل الوطن أحسن تمثيل، وإنني أهيب بطلاب الدراسات العليا بدراسة إنتاجه العلمي، وأن يتناولوا جهوده وإنجازاته العلمية والفكرية والأكاديمية، فهو نسيج وحده ومدرسة نهل منها الكثير من الكوادر الأمنية على المستويين المحلي والعربي، وترك لنا إرثاً فكريًا وعلميًا هائلاً ومتنوعًا، هدفه الرقي بالإنسان وغايته رفع شأن الوطن، وتعزيز أمنه واستقراره. ومن الوفاء أن تخلد ذكراه وسيرته العطرة بتسمية معلم حضاري أو شارع في مسقط رأسه باسمه، أو قاعة في معاهد ومراكز ومدن التدريب والكليات الأمنية ليكون -رحمه الله وأمثاله ممن خدموا الأمن- دائمًا في ذاكرة الوطن، وأمام الأجيال قدوة مضيئة في الإخلاص والبذل والعطاء، تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}