د. جاسر الحربش
تعتبر العربية اللغة الوحيدة التي ما زالت حية بين كل اللغات القديمة. اللغات الحية اليوم، وبالذات الإنجليزية والفرنسية والألمانية كلهن حفيدات للغة اللاتينية التي لم يعد يتحدث بها سوى الكرادلة في صلوات الكنائس. لكي تبقى اللغة حية يجب أن تتطور وتتجدد مع التطور البشري.
تعاني اللغة العربية بوضعها الموروث حتى اليوم من عدة إعاقات عن التعامل السريع مع الانفجار العالمي في العلوم المادية، إضافة إلى صعوبة استيعاب شروط التحدث والكتابة بها بطريقة سليمة حسب القواعد والنحو والصرف التي وضعت قبل خمسة عشر قرناً من الزمان. هذه الإعاقات تهدد بصرف الأجيال الشابة والقادمة من أبناء العرب عن لغتهم لصالح اللغة الإنجليزية الأسهل تعلماً والأكثر انتشاراً والأضمن فائدة للعيش والتعايش.
قواعد الإعراب للمفرد والمثنى وأنواع الجمع والبناء والتكسير، وكان وأخواتها الرافعات الناصبات، وإنِّ وأخواتها الناصبات الرافعات، وأنواع المفعول به ومعه ولأجله، وغير ذلك من الاتساع اللانهائي لاستعمال مفردات لا حصر لها للشيء أو الفعل الواحد، هذه كلها عوائق ليست لصالح استمرار لغتنا الوطنية والقومية، حتى لو رفع المحتجون عقائرهم أو عقاراتهم أو عواقرهم ضد ما أقول وأزعم.
يعتبر العالم الآن اللغة الإنجليزية لغة علمية عملية عالمية لثلاثة أسباب.. الأول: سهولة تعلمها وبساطتها التركيبية لأصحاب العلوم ولغير المهتمين بالعلوم، والثاني : انتشارها الفضائي بمخاطبة كل الأعمار من الطفولة الأولى، والثالث والأهم : ريادة مساهمات المجموعة الأنجلو سكسونية الأمريكية والبريطانية والكندية واستراليا ونيوزيلاندا في الأبحاث العلمية والتطبيقية.
الهند وجنوب إفريقيا دولتان تقدمان مساهمات هامة في العلوم الحديثة باللغة الإنجليزية التي حلت كلغة رسمية محل العشرين لغة وطنية في الهند وعدة لغات ولهجات محلية بجنوب إفريقيا.
لكن اليابان والصين وكوريا الجنوبية والمحتل الإسرائيلي، وفي حدود معقولة ماليزيا وتركيا احتفظت بلغاتها الأصلية كلغات علمية بعد أن طوعتها لتصبح مرنة بما فيه الكفاية لمتابعة الترجمة الفورية ونشر الأبحاث وأهم من ذلك للتعليم الجامعي والتقني.
لحسن الحظ ما زال العالم العربي بأقلياته الكردية والأمازيغية وغيرها يتحدث العربية الفصحى ويتعامل باشتقاقاتها الشعبية في شؤونه اليومية، ولكنه ما زال عاجزاً عن استنباط لغة عربية مرنة وجامعة وتفي بالغرض لمتابعة التطورات العلمية، مثلما فعلت اليابان والصين وكوريا والكيان العبري. لم يكن النقص في المحاولات والجهود هو سبب العجز، لكنه على الأرجح يعود إلى كون المكلفين بشؤون العربية في المجامع اللغوية والمراكز الأكاديمية ما زالوا متعصبين للقديم الموروث على حساب التطوير التحديثي، بالإضافة إلى أن كل مجموعة قطرية تخدم أجندتها السياسية التي تفرضها عليها تبعية الدولة.
اللغة العربية بوضعها الحالي غير مرنة لملاحقة الإنتاج العالمي في العلوم الحديثة. ما ان يلتحق الطالب العربي في أي دولة عربية بالتعليم الجامعي العلمي إلا ويصطدم بحقيقة أن لغته التي درس بها اثنتي عشرة سنة من قبل لم تعد هي لغته في الطب والحاسب الآلي والعلوم الصيدلانية والفيزياء والكيمياء والنانو، ناهيكم عن علوم الذكاء الاصطناعي التي سوف تشكل المستقبل.
بالمختصر : إما أن يتم الاتفاق الطوعي وبسرعة على استحداث تطوير تحديثي لغوي، وخصوصاً علمي تقني لا يسيطر عليه جهابذة اللغة الكلاسيكية، ولا تتدخل فيه السياسات القطرية، وإلا سوف تكون النتيجة البقاء في دائرة التخلف والعجز عن الترجمة ونشر الأبحاث وفي النهاية التنازل علمياً عن اللغة العربية. إن تعذر ذلك -لا سمح الله- سوف تكون اللغة العربية خلال ربع قرن لغة تعبدية فقط لا غير.