م. بدر بن ناصر الحمدان
الخميس 16 مايو 2019م، الساعة السادسة مساء بتوقيت الرياض، بعد نهاية يوم عمل طويل ومضن، قررت «شادن» العودة إلى منزلها، ولكن بتجربة نقل لم تخضها من قبل، الجميع غادر المكان، لم يبق سواها، وشيء من الأمل الذي بداخلها للحاق بما تبقى لها من ذلك اليوم، المطر المنهمر، لا يمنح أي فرصة لالتقاط الأنفاس، ثمة حياة تهطل من السماء، لا يمكن تفويتها، لحظات لا مجال للتنازل عن عيشها، ما هي إلا أقل من دقيقتين وسيارة «أوبر» تقف أمام المدخل، كابتن السيارة امرأة سعودية تتجاوز العقد السادس من عمرها، ابتسامتها تملأ كل ما يحيط بها، حددت مكان المنزل عبر الخرائط المكانية بمهارة عالية، وانطلقت إلى وجهتها.
أخذت «شادن» مكانها في المقعد الخلفي، وهي غارقة في استرجاع أحداث ذلك اليوم «المُرهق»، تحمل بيدها رواية «بائعة الخبز» لـ»كزافييه»، التي لم يتسن لها قراءتها حتى الآن، ذهبت تحدق بنظرها إلى زجاج النافذة، تختلس إطلالة من بين المساحات التي لم تتشبث بها قطرات المطر، وكأنها تشاهد الرياض لأول مرة، وتسترق السمع لأصوات ضجيج السيارات، صورة السيدة في المقعد الأمامي تنعكس على الزجاج، المشهد يوحي وكأنه إحدى لوحات جوستاف كاييبوت «شارع باريسي ذو يوم ممطر».
ذلك التحديق لم يكن سوى «فترة صمت» و»مساحة ترقب» لقراءة ملامح تلك المرأة الستينية الغامضة، بعد حوار مقتضب معها، تبين أنها امرأة وحيدة، ومتقاعدة عن العمل، عبثت بها العُزلة، تخوض معركة صعبة مع الحياة، وتكسب عيشها من وراء مقود هذه السيارة، ولسان حالها يقول «لا الناس تعرف ما أمري فتعذرني، ولا سبيل لديهم في مواساتي».
تقول هذه السيدة إنها تعودت أن تشارك الراكبين حكاياتهم، وتعيش معهم أفراحهم، وتتعايش مع أحزانهم، وتحمل همومهم، تتقاسم معهم أوقاتهم الجميلة، وتشاطرهم الصعبة منها، باتوا يعرفونها، وتعرفهم، ينادونها بالكابتن «أم عبدالله»، يبدأ يومها مع شروق الشمس، وينتهي بها الغروب عند باب منزلها الذي لا يوجد فيه أحد، لقد تحولت سيارتها إلى «ديوانية» متنقلة، تجوب بها شوارع الرياض، بحثاً عن الناس، ليس من أجل المال فقط، بل من أجل عيش مشترك فقدته منذ زمن.
لم يكن أمام «شادن» التي لم تتحدث طوال الطريق أي خيار آخر، سوى أن تفتح قلبها لكل هذه المشاعر القادمة من المقعد الأمامي، أي قدر ساقها للقاء هذه المرأة التي تسكنها روح جميلة، ومفعمة بالحياة، ما كل تلك الإيجابية التي تمتلكها، رغم كل هذه الظروف التي تعيشها، إنها إنسانة مختلفة، نادر ما يعترضنا مثلها في رحلة الحياة، يا لها من كائن فريد.
لبرهة، توقفت الكابتن أم عبدالله عن الكلام، وحبست أنفاسها، التفتت، ثم اعتذرت عن حكاياتها الطويلة، وعن زحام الطريق، وعن المطر، وعن كل ذلك الوقت المتأخر، ولم يبقى سوى أن تعتذر عن كل مشكلات العاصمة الرياض، سلوك بشري رفيع المستوى، وقيم إنسانية لا تضاهى، نظرت إلى الأمام، وقالت بنبرة حزينة «لقد اقتربنا من الوصول إلى المنزل»، لم تكن تريد لهذه الرحلة أن تنتهي، فهي حياة بالنسبة لها.
توقفت السيارة أمام المنزل، وترجلت «شادن» منها بخطوات مثقلة، لا تدري هل هي خطوات على أثر تعب، أم هي رغبة في مواصلة الرحلة، فلقاء الأروح التي تشبهنا لا يحدث دائماً، تركت روايتها على ذلك المقعد الخلفي، لربما قرأها من يمتلك الجرأة على مواساة من ستتحدث إليه في الرحلة القادمة، انتهت الحكاية، بعد أن غابت الشمس، وتوقف المطر، وغادرت تلك السيدة «المُلهمة»، تشق عباب الأرض، تبحث عن الذين فاتهم قطار الحياة، وفقدوا الأمل، أو تاه بهم الطريق، لتكون «هي» محطة العودة، لكل من أتعبه الانتظار.
فتشوا عنها في شوارع الرياض، وفي أحياءها وأزقتها، ستعرفونها بابتسامتها، وبعبارة كُتبت على زجاجة سيارتها الخلفية، «أبيعُ في غابة الأحزانِ أغنيتي».