عبدالعزيز السماري
أثارت مقابلة الزميل الكاتب منصور النقيدان في برنامج الليوان زوبعة من الأسئلة والتعليقات، فقد أظهر خلال ساعة من الزمان ألوان الطيف في رحلة الإيمان بالله عز وجل عبر التاريخ، وكيف انتقل من تيار إلى آخر، كان آخرها غلاة المرجئة، وكأنه يقول للمستمع أنه بذلك أتم رحلته في فرق الإيمان، بدءاً من تقشف إخوان بريدة، ومروراً بتطرف السلفية الجهادية، وانتهاءً بإيمان المرجئة المتساهل إلى درجة الاكتفاء بالإيمان قلباً بدون عناء العمل، الدهشة في الأمر أن كتب الأوائل استوعبت تلك الاختلافات، ولم يكفر بعضهم بعضاً، ولكن استخدموا مصطلح البدعة للتعبير عن الخروج عن منهجهم، أو ما اتفقوا عليه..
كانت حياة منصور النقيدان اختزالاًِ لصراع علم الكلام في تاريخ صدر الإسلام، فالعاصفة بدأت بعد الفتنة الكبرى، التي فتحت الباب على مصراعيه للتفكير بصوت عال، كان أول متحدثيها القراء أو الخوارج، وذلك عندما أصدروا اجتهاداتهم حسب فهمهم للنصوص بأن صاحب الكبيرة كافر، وكان تعبيراً عن مرحلة تقاتل فيها كبار المؤمنين، ورُفعت خلالها المصاحف على حد السيوف، فكان الحل وضع تشريعات تكفيرية لكل خروج عن سلوك المؤمن.
لكن تلك الحدة في الأحكام تبعها طرح ثقافي أكثر إتزاناً للمعتزلة، الذين كسروا حدة الأحكام، وقالوا إن أصحاب الكبيرة فاسق، وفي منزلة بين المنزلتين أي بين الإيمان والكفر، لكنه لا يصلح للإمامة، وكأنهم بذلك يتداولون السياسية من خلال درجات الإيمان بالله عز وجل، ثم جاء الحنابلة بالحل الوسطي، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي، والكبائر لا تخرج من الملة، ويظل المسلم مؤمناً، ولا تجوز محاربته أو الخروج عليه بسبب ذلك، وكان ذلك أشبه بالحل السياسي البراغماتي لإيقاف الفتنة، وتحصين إيمان المسلم من تطرف أخيه المسلم.
ثم جاء مرحلة الإرجاء، وقدموا تعريفاً للإيمان يناسب المرحلة، وبأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار، وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان، وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملو الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار في الآخرة.
ولو حاولنا ربط هذه التحولات في تعريفات الإيمان بالله بأحوال البشر لسهل تصورها بشكل أفضل، فالأمة أو الدولة في تاريخ العرب تبدأ عادة بمرحلة الجهاد، ويكون فيها التشدد حاضراً، كما عبر عنه القراء في المرحلة الأولى، وعندما تبدأ الأوضاع السياسية في الاستقرار تبدأ مرحلة الثقافة أو التفكير بصوت أكثر تحرراً من أيام الجهاد والاقتتال، لكن الخوف من العقل يدفع بالوسطية إلى الأمام، وفي قدرتها على تعزيز الجماعة، وعدم الخروج عنها عقلاً أو إيماناً.
في مرحلة الرفاهية والاستقرار والثراء يكون للإرجاء دور في هذه المرحلة، فهو دين الرخاء، ويكثر معتنقوه، ويصبح تفسيراً مقبولاً للحياة عند البعض، وذلك لأنه يغلق أبواب التكفير، وبه تكون آخر الفصول في رحلة الإيمان في العقل السياسي، وما أفسد بلاد العرب أن تلك المراحل تعود من جديد، وذلك عندما تبدأ مرحلة التوحش في الأطراف، وبسببه تعود فكرة التكفير السياسي، وهكذا..
الرواج الإعلامي لمثل هذه الأفكار يجعل منها رأس المال الرمزي للأمة، ولذلك تدور النجومية في فلك الانتقالات من تيار إلى آخر، وهو ما أسقط النجاحات الحقيقية في شؤون الحياة، وجعل من الإنجازات في التنمية والعلم والاقتصاد في منزلة أدنى، لكن الأخطر من ذلك جميعاً، ترك حبال السياسة على غارب هذه الخلافات، التي كانت وقوداً للعصبية والدموية في تاريخ العرب الأوائل، ولو عرف العرب الأوائل قيمة الاقتصاد في أحوال العباد لتوقف دوران العصبيات الدموية إلى الأبد.