د. محمد عبدالله العوين
كنت أعود إليها بعد أن أنتهي من عملي عند منتصف الليل، فأجدها إما نائمة، فأحاذر أن يسمع لوقع قدمي صوت لئلا تستيقظ، بينما مؤشر الراديو الصغير الخاص بها غير البعيد عنها، يصدح بتلاوة كريمة من القرآن الكريم؛ لأن مؤشره مثبت دوماً على إذاعة القرآن الكريم، أو أجدها تصلي صلاة آخر الليل، فأتلهى بالدوران في فناء المنزل الصغير.
كانت تقضي عندي أياماً ليست كالأيام، ما كنت أحسب أنها ستنقضي، وتقضي عند إخواني الثلاثة أياماً أخرى، تتحرى العدل فتوزع الشهر بيننا، ولكنها تميل أو تعطف على أصغرنا فتزيد له يوماً أو يومين، وحين أعاتبها تقول وهي تبتسم: أنا ما أعرف الحساب!
ودع عمرك الذي قضيته بين أحضان جماد لم يعد جماداً؛ فقد اختلطت ذراته بذراتك، وامتزجت رائحته برائحتك، واستحال لونه إلى لونك، وتبدل اسمه إلى اسمك؛ فتتوه في كل الدروب إلا دربه، وتضيق بك كل السبل إلا سبيله، وتقلوك كل القلوب إلا قلبه، وتهجرك كل الأحضان إلا حضنه!
ودعه!
ودع فرحك حين أطلت عليك أول بسمة صادقة في عمرك من رحم الغيب بعد إطلالة أول مولودة، ثم ثان ثم ثالث ثم رابع!
ودع مكتبة صغيرة لطيفة أليفة قضيت فيها أربع سنين كتبت رسالة الماجستير، ثم أربع سنين أخرى كتبت رسالة الدكتوراه، ثم كل العمر الذي احتضنتك فيه هذه المكتبة الصغيرة كتبت فيها مئات المقالات للجزيرة وللرياض ولليمامة ولملحق الأربعاء بصحيفة المدينة ولغيرها من الصحف، وألفت فيها عدداً من الكتب.
ودع مجلسك الصغير الذي احتفل بأغلى الناس؛ والدك وإخوانك وأعمامك وأقربائك، وابتهج وانتشى باتكاء أعز الأصدقاء على أرائكه الوثيرة المتواضعة، ولو عدت إلى ألبوماتك الغنية الوفيرة وما ضمته من صور لوجدت عشرات اللقطات لوجوه عزيزة أليفة حبيبة، احتفلت بهم وابتهجت بأنسهم وبضجيج حكاياتهم وبتعانق أصواتهم العالية حين يحتدم النقاش في مجلسك الصغير هذا.
قبل أن ترحل وتدع هذا المجلس لا بد أن تلثمه، فعلى كنباته لم تتبعثر حكايات، ولم يمتلئ الليل بقصص، ولم تأنس الساعات الطويلة بضحكات مجلجلة تتدفق من القلب فحسب؛ بل فضفضت هنا أرواح جميلة ودارت هموم صادقة وتعانقت أرواح محبة.
أما هنا وأمام المجلس الصغير هذا، وقبل أن تهم بالخروج بعد آخر نظرة وداع، لا بد أن تلقي نظرة على طاولة الطعام الطويلة التي اصطف على جانبيها طوال ستة وثلاثين عاماً أحبابك وأصدقاؤك، كنت تقف تخدم والدك، وكنت لا يمسكك مقعدك وأنت تقدم ألذ مأكل تستطعمه والدتك، وكنت لا تهنأ إلا بسعادة ورضا وابتهاج أصدقائك، وكان هذا المكان الذي تودعه الآن يشاركك الفرح والاحتفاء بضيوفك.
أما على مدخل عتبة الباب الداخلي الذي تلتف حوله ثلاث درجات دائرية من الرخام البني، فما يجوز لك أن تمر عليه على عجل، فلا بد أن تنحني وتقبل حيث جلست والدتك في أيامها الأخيرة حين أعياها المشي.
أقفلت بابك وأقفلت معه على ذاتي بين جدرانك إلى الأبد.