ما كان عروة بن الورد ممن يستدرجه الغنى ليتباهى به وإنما ليكون على سجيته الثابتة في إنفاقه على الفقراء والمحتاجين وهو ما نسميه الثابت الذي لا يتحول :
أقسّم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ
لا يخلو العالم أبداً ممن يقسّم جسمه حتى وإن كان على حساب غيره، فالمطر يسقي الشجر والمدر دون أن يلتفت لمن كان يتقيه ، أو لمن يرفع ضعيفاً دون أن يلقي نظرة عابرة لمن خلفه يشفق منها على خيبات الأمل ، أو لمن يعاود الكرّة في كل مرة كسيزيف الذي لا يألو جهداً ولا يكل أو يمل من أن يرجع بصخرته كلما تدحرجت من علو !
ما كل ذلك الحب العذري ؟
إنسانية مفرطة في الحب للآخر نادرة قلما يكون هناك عشرة منه متفرقة ، فهي وإن كانت إيجابية أحياناً قد نكون في غنىً عنها في حالة السلب، لأن الثبات يكون في الاتجاهين فهي نزعة إنسانية لا تعرف التحول وهي جبلّة في المرء قد تصحو عند كل فرد حين يشعر باقتناع في إنسانيته الايجابية وبأنه إنسان كامل النمو وراشد بعقل ينضح من معينه بعاطفة صادقة تأتلق مع نجوم السماء حين يحسده القمر على بياضه الناصع !
لم تكن فدوى طوقان تتسول الحب حين قالت ( أعطنا حباً ) وإنما كانت تظن أنها تبعث في روح اليائسين ضوءا من الأمل، حين كانت تستنهض همم من يحاولون الهرب من الضياع والقلق :
انتهينا منه شيعناه، لم نأسف عليه
وحمدنا ظله حين توارى
دون رجعة
لم نصعد زفرة خلف خطاه
لم نرق بين يديه
دمعة أو بعض دمعة
أيقونات الشر واحدة لا تختلف فالكره هو يأس وقلق لا بد أن تكون الحرب شاملة لا تستثني أحداً منهم :
غاب عنا وجهه الممقوت لا عاد لنا
كان سريراً أمات الشعر فينا
والمُنى
كان شريراً وكانت
عيناه تنضح قسوة
إنما كانت تقصد الشعر لأنه الأمل الرومانسي الذي يحيي القلوب والعقول ويصعد بالهمم رؤوس الجبال بنشوة المنتصر الذي بدّل خوفه شجاعة وإقدام ...
كلها تضحيات من أناس قسّموا أجسامهم في جسومٍ كثيرة وأعطوا الحب لأناس لم يعرفوا معناه وهذا دلالة على قوة التضحية وثباتها الكبير ...
وما المتحول سوى من تكون النيّة جالبة لما استمرأ عليه فلا يستطيع أن يكمل ما هو ثابت ، لأن التحول يفضحه فالمتنبي يقول :
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
ولكن حب المتنبي ينسف ذاك كله فهو رضا وحب بألم المنفعة وليس بحب خالص منبعه القلب على حقيقته، لأنه يعلم أن مقولته لمقام الوالي الذي يعطيه وكيداً في الحاسد حتى لا يشمت فيه.
** **
- زياد بن حمد السبيت