الثقافية - محمد هليل الرويلي:
ثاني ضيوف زاوية (ذاكرة الكتب), الأديب والقاص (جامعة الكويت) الدكتور «سليمان الشطي, استهل حديثه للثقافية بعبارة التصقت بذهنه منذ زمن تقول: كلما فتحت كتابًا فتحت نافذة على جهلي. وقال: هذا قول حق، وأضيف أن ثمة عالم آخر ينفتح مع كل كتاب تأسرني كلماته حين تحضر مع كل كتاب تلك المتعة الممتزجة بالمبهر المدهش، فلكل جديد لذة، والكتب التي تعلقنا بها كثيرًا كانت تحمل جديدًا. والكتب أيضًا بالنسبة لنا تأخذ مكانة ليس بالضرورة لفائدتها وتميزها دون غيرها، ولكن قد تأخذ في نفوسنا وعقولنا مكانة لأنها جاءت في لحظة يكون أثرها أو مضمونها صادف قلبًا متلهفًا وعقلاً مفتوحًا فاستقر في منطقة يجعلك تتذكره، وتلمس أثره فيك مهما تغيرت الأذواق أو تبدلت الأفكار أو الاهتمامات.
وتابع: هما كتابان ظلت الذاكرة تستطعم ذكرهما كلما انفتحت سيرة الكتب المؤثرة. صبيًا كنت، طالبًا في المراحل الأولى، مستغرقًا بقراءة الكتب الشعبية، تشدني حكاياتها أينما كان مصدرها سماعًا أو قراءة، أحاكي قصصها رواية وتمثيلاً. ويعلن عن مسابقة طلابية في الفنون الأدبية، أشترك فيها وأفوز بجائزة القصة، وكانت الجائز كتابين: أولهما لمحات من تاريخ العالم للمناضل الهندي جواهر لال نهرو، الذراع الأيمن لزعيم الهند وصانع استقلالها: غاندي. وكان نهرو أيضًا أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال. أصل كتاب اللمحات رسائل كان يكتبها نهرو، وهو في المعتقل، لابنته انديرا غاندي، التي أصبحت بدورها رئيسة للهند في سبعينيات القرن العشرين.
فتح لي هذا الكتاب أفقًا لم أكن أعرف وقتها عنه شيئًا، سياحة واضحة في عرضها، شاملة في موضوعاتها التي استعرضت تاريخ العالم، بل لمحات الحضارة الإنسانية، فيها اقتراب من الأفكار المؤثرة في المسيرة البشرية، عرفت شيئًا عن التاريخ القديم، بما فيه نظرة إلى بروز الحضارة الإسلامية، ثم دخل إلى العالم الحديث بدءًا من القرون الوسطى وتحكم الإقطاع ثم تاريخ النهضة الحديثة وأبرز مراحلها وأفكارها، مسلطًا الضوء على مشكلاتها وفي مقدمتها الاستعمار ويستعرض الثورات الديموقراطية والاشتراكية والأفكار والمفكرين الذين وضعوا فلسفتها ودعوا لها، وصولاً إلى العصر الحديث والحروب التي قامت فيه ولم ينس، حديثة والأزمات المالية ومشكلات العالم المختلفة.
وزاد: أدخلني كتاب اللمحات يومئذ في رحلة ممتعة مدهشة، كانت رؤية متسعة مركزة واضحة، فيها عنصر جذب، وفيها قراءة شرقية ناقدة وموظفة لهدف كبير. كان الأثر الذي غرسه هذا الكتاب في أعماقي أنه حرك عندي شوق المعرفة التي لا تحصر نفسها في إطار ضيق. وهكذا كان، فقد أصبحت فضل هذا الكتاب منفتحًا على القراءة الشاملة التي تنظر إلى الثقافة الحضارية كُلَّا واحدًا: فلسفة وفنًا، تاريخًا واجتماعًا.
كُتب علمتني كيف أشتري «روح الإنسان»
أما الكتاب الثاني الذي جاء مرافقًا للسابق وكان البوابة المغناطيسية للأدب والرواية بالذات «رواية البؤساء»، لفكتور هيجو، رواية خالدة، شهرتها الفائقة تغني عن التعريف بها. تعاطفت مع شخصيتها الرئيسة، أذهلني الظلم الواقع عليه، شدتني المطاردة، ازداد تعاطفي معه عندما لمست تلك الطيبة التي تحلت بها تلك الشخصية التي بدأت بحادثة سرقة. كان تعاطفي آنذاك غير مدرك أو مستوعب الفكرة التي أحسست بها وفهمتها فيما بعد عندما أدركت المحور الرئيس، وهو المراهنة على الروح، روح التسامح والعفو، وكيف تشتري بهما روح إنسان.
الحط من قدر الرجال وتحطيم كرامة المرأة
وحول تأثير الكاتب وسيطرته في المقابل على مشاعر أديبنا أو ما يسمى لحظة التشظِّي قال «الشطي»: أتحدث بلمحة عن تلك الهزة الأولى التي فجرتها الكلمة الأولى في صدر الكتاب والتي تقول: مادام هناك بسبب من القانون والعرف هلاك اجتماعي يخلق جحيمًا على الأرض ومادامت مشكلات العصر الثلاث: الحط من قدر الرجل بالفقر، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع, وتقزيم الطفولة بالجهل، فإن كتبًا مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون بغير فائدة.
ومن يومها احتضنت الكتب، أعايشها التفت لما في الأعمال الروائية والمسرحية من دروس فيها ذكاء، وكثيرًا ما كانت الدراسات النقدية تنبهني إلى ما في هذه الأعمال من خفايا فأعيد قراءتها أو أستعيد أحداثها في ذهني. منوهًا إلى أنه من الجميل أن تعقد صحبة مع أذكى الرجال وأعقلهم، وأعلمهم وأكثرهم خبرة وأكثرهم رهافة وإنسانية وأقدرهم على التحليق في عوالم الجمال إنهم الرجال في صورة كتب والكتب في شكل الرجال.