د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
جاء في خطبة (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) «وقد قال أبومالك الحضرميّ: رُبَّ علمٍ لم تُعْجَمْ فُصُولُه، فاستَعجَمَ مَحْصولُه»(1)، وأعجم الشيءَ يُعجمه أزال عجمته، ومن دلالات (أفعل) السلب والإزالة، تقول أشكيته أزلت شكاته، وأقذيته أزلت قذاه، وأخفيته أزلت خفاءه، وأعتبته أزلت عتَبه، وأما (استعجم) فصار أعجم، والأعجم المبهم ذو العُجمة، وقد يراد باستعجم بلغ غاية العُجمة، مثل استعصم، قال الزمخشري «الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب»(2)، وقال «اسْتَيْأَسُوا يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم»(3).
وهكذا وجد عبدالله بن عبدالعزيز البكريّ الأندلسيّ (ت487ه) كثيرًا من أسماء البلاد والمواضع الواردة في التراث العربي قد نالها التحريف والتصحيف فاستعجمت أي استبهمت، وكل مبهم معمًّى أعجم، قال «فإنِّي لَمَّا رأيتُ ذلك قد استعجم على الناس أردتُ أن أفصحَ عنه، بأنْ أذكرَ كُلَّ موضعٍ مبيَّنَ البناءِ، معجَّم(4) الحروف، حتَّى لا يُدْرَك فيه لَبْسٌ ولا تحريفٌ»(5). ولتحقيق ذلك ذهب البكريّ يسمي الحركات ويعين الحرف المعجم، أي المنقوط، والحرف المهمل، مثال قوله «آرَةُ»: بفتح أوَّله ومدِّه، وفتح الرَّاء المهملة، على وزن فَعْلَة»(6)، ونص البكريّ على الوزن بيان منه أن المدة منقلبة عن أصل. ولما اتصف به معجم البكري من الضبط الفريد صار عمدة غيره من المعجمات وكتب الأدب والتاريخ والبلدان.
نالت عناية المحدثين هذا المعجم، فحقق ونشر ثلاث مرات، الأولى ألمانية سنة 1870م، والثانية مصرية سنة 1945م، والثالثة لبنانية سنة 1998م، ثم تُوّجت هذه العناية بهذه النشرة السعودية سنة 2019م، وهي نتيجة تضافر عالمين من أشهر علماء هذا العصر، أستاذنا أ.د. عبدالله بن يوسف الغنيم، أستاذ الجغرافيا بجامعة الكويت، وأستاذنا المحقق أ.د. عبدالعزيز بن ناصر المانع، أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود، وصدر المعجم في خمسة أجزاء، أصدره مركز حمد الجاسر الثقافي وكرسي الدكتور عبدالعزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها.
ومن البديهيّ أن يكون السؤال: ما الذي أجاء الأستاذين إلى إعادة تحقيق كتاب حقق ثلاث مرات؟ وهو سؤال دعاهما إلى القول «والإجابة تتطلب منا البحث فيما يلي:
1) النسخ المخطوطة التي اعتمد عليها المحققون الثلاثة من حيث القدم والكمال والصحة والضبط والوضوح وصلتها بالنسخة الأم.
2) صحة القراءة، والتثبت من النصوص؛ تجنبًا للتصحيف أو التحريف الذي قد ينشأ عن الاعتماد الكامل على نسخة معينة والرجوع بشكل عشوائي إلى النسخ الأخرى، وهذا يوهم القارئ بأن المحقق قد اطلع على جميع النسخ، وهو عيب تحققنا منه في عملنا بهذا المعجم.
3) مدى الاستفادة من الاستدراكات التاريخية والجغرافية المهمة التي كتبها عدد من العلماء الذين أفادوا من ذلك المعجم وحققوا مواضعه، ويأتي في مقدمة أولئك ما كتبه الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - من بحوث وتعليقات في المجلات العلمية المختلفة، أو فيما حققه من كتب تتصل بجغرافية شبه الجزيرة العربية وتاريخها وآدابها، وما قام به من دراسات ميدانية واسعة لغرض تحديد الأماكن الواردة في المعجم المذكور»(7).
وقد تبين بعد التدقيق في أمر النشرات الثلاث واستعراضها «أن تلك الطبعات ينقصها الإلمام بمخطوطات المعجم في العالم أو عدم الاستفادة مما تيسر منها لكل محقق»(8)، وضربا مجموعة من الأمثلة لذلك، ثم إن آخر محقق، كما ذكرا، لم يستفد من الدراسات التاريخية الجغرافية التي استدركت على المعجم. ومع توقف المحققين في أمر النشرات الثلاث لم يهملاهن كل الإهمال بل استفادا من خير ما فيهن بعد مراجعته ومقابلته بجميع المخطوطات.
لم يصف المحققان طريقتهما في التحقيق، ولا ما بذلاه من عناء في تتبع مفردات هذا العمل الجليل؛ ولكن هذا يتبين للقارئ من الصفحة الأولى وما في حواشيها من مقابلات بين المطبوعات والمخطوطات ومن إشارات إلى تعليقات المحققين وتعليقات الشيخ حمد الجاسر. والتزم المحققان بالترتيب المعجمي المغربي الذي وضعه البكري فلم يرتبا المعجم حسب الهجائية المشرقية كما فعل بعض المحققين، وأحسن المحققان بوضع كشافات فنيّة تعين على الوصول السريع إلى المطلوب.
ولعلنا نرى في المستقبل معجمًا جغرافيًّا بالخرائط يضم هذه الأسماء قديمها وحديثها معينة مواقعها بالطول والعرض.
... ... ...
(1) البكري، معجم ما استعجم، تحقيق: الغنيم والمانع، 1: 2.
(2) الزمخشري، تفسير الكشاف، 2: 467.
(3) الزمخشري، تفسير الكشاف، 2: 494.
(4) هكذا في المطبوع ولعله خطأ طباعي صوابه (معجَم) بلا تشديد، وأما المعجّم بالتشديد فهو المعضّض.
(5) البكري، معجم ما استعجم، تحقيق: الغنيم والمانع، 1: 2.
(6) البكري، معجم ما استعجم، تحقيق: الغنيم والمانع،1: 96.
(7) الغنيم والمانع، مقدمة معجم ما استعجم للبكري، 1: 3.
(8) الغنيم والمانع، مقدمة معجم ما استعجم للبكري، 1: 18.