عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي:
(عبر يعبر فهو عويبر) هو آخر وأحدث عمل روائي للكاتب, الدكتور شاهر النهاري, صادر بطبعته الأولى عام2016م عن» منشورات ذات السلاسل» بدولة الكويت.
والمتابع للتجربة الروائية لدى(النهاري) يجد أنه يولي (عنصر المكان) دون غيره من عناصر السرد الأخرى اهتماما واضحا وجليا، في كافة أعماله السابقة, كما تمثل لنا في روايته»بوح ونواح» وروايته «شلالات الشهوة» وكذلك روايته «مجتمع كانكن» وغيرها من أعماله السردية الأخرى المنشورة ورقياً أو إلكترونياً.
ويظل المكان - حسب ما يراه كتاب الرواية ونقادها - ذا أهمية كبيرة في بنية العمل القصصي ولغته وتشكلها, وهو يمثّل إلى جانب ( الزمان) العنصرين الأساسيين لأي عمل سردي أو قصصي أو حكائي، إذ إنه بدونهما يصعب على القارئ أو المتلقي استيعاب الحدث السردي وشخوصه وبيئته، وهذا ناتج عن قناعته البديهية مسبقا في أنه (ليس هناك حدث ولا شخصيات بلا زمان ولا مكان محددين) حتى لو كان من نسج الخيال, فضلا عن اعتقاده بمدى حقيقته وواقعيته!
وتأتي أهمية المكان, وعلاقته الأزلية بالزمان بالنظر إليها من جوانب عدة: طبيعية وجغرافية وفيزيائية وحسية وتاريخية, فهو أقدم في الكينونة من الزمان, وهو ثابت, ومحسوس أو مجسد بأبعاد جغرافية معينة وظاهرة للعيان، بعكس (عنصر الزمان) الذي هو في تغير مستمر, وإحساسنا به معنوي وغير مباشر وغير مرئي!
ولذلك فقد تعددت صور (المكان) في روايات (النهاري ) بين الواقعي والخيالي والوهمي أو المفترض, فكان واقعيا في روايته (بوح ونواح) وافتراضيا في روايته (مجتمع كانكن) وقد يكون ذا خصوصية محددة كما في روايته هذه التي بين أيدينا الآن(عبر يعبر فهو عويبر) والتي كان فضاؤها الروائي يشغل حيزا جغرافيا صغيرا جدا, لا يتجاوز أسوار قصر ذي مساحة محدودة جدا، تدور فيه جميع أحداث قصة مأساوية، استمرت حقبة طويلة من الزمن, دون أن تستطيع مجرياتها وتبعاتها أن تتمدد خارج أسوار ذلك القصر المشؤوم الشبيه بسجن مظلم كبير, ينعق غراب البين والبؤس والشقاء على جنباته, ويستشري الظلم والاضطهاد في كل ركن من أركانه!
ويتناول (النهاري) في هذا العمل التفاوت الطبقي بين مجتمع (ارستقراطي) يمتاز بالجاه والمال والسلطة, وبين (طبقة كادحة) مهمشة متواضعة, تعيش على الكفاف وشظف العيش, وما يفرضه هذا التفاوت في أساليب المعيشة ومستوياتها من تسلط القوى الكبيرة لأي مجتمع على الطبقات السفلى منه, وتبعيتها لها.
وهذا ما حدث لـ (عويبر) بطل الرواية والشخصية المحورية فيها، تلك الشخصية المتواضعة، رغم إنسانيتها وما تمتلكه من موهبة فذة وذكاء فطري, والتي رضخت لسيدها الوجيه (غنام/صاحب القصر) وقامت على خدمته سنين طويلة رغم ما طالها منه من الظلم والإهانة, وكذلك كان آباؤه وأجداده من قبل, الذين عرفوا بخدمتهم المتفانية لسلالة هذا السيد الظالم منذ القدم, حتى توارثوها أبا عن جد، وأدمنوها لدرجة بلغت من الرق والعبودية ما يعجز عنه الوصف!!
بل كانت أسماء الشخصيات وبمجرد استعراضها مباشرة من المؤشرات الواضحة على ضرورة تبعية( التابع/ الضعيف) لـ (المتبوع/ القوي) في كل شيء، حتى أنه ليس لها حق الاختيار في أن تستقل عنه بأي شكل من الأشكال, ومهما كانت الظروف والأحوال!! حيث اتخذت هذه الشخصيات الضعيفة أسماء مصغرة، توحي بقلة شأنها, مثل(عويبر) و(سويبق) و(غوينم) و(شويخة) بينما اتخذت الطبقة التي تتسيد الموقف أسماء مكبرة على صيغة (التفخيم) مثل :عبار وسباق وغنام والشيخة)...إلخ.
ويصور لنا الكاتب في أحد المواضع من الرواية كيف كان (عويبر) يحلم ويفكر في أن يهرب بنفسه هو وأخته (ريمية) المصابة بعاهة صحية، أفقدتها القدرة على الحركة والسمع والكلام( وهي الراوية التي تجري على لسانها للقارئ أحداث هذه القصة) من جحيم هذا القصر وأهله الظلمة؟! وكم من مرة، تعرض للضرب والجلد والتعذيب والإهانة لدى اكتشاف سيد القصر لأمره لدى محاولته الهروب, والانسلاخ عن تبعيته!! لكن رغم هذا كله ورغم المحاولات المتكررة في سبيل الانطلاق للحرية والحلم بها... ترى هل (عبر عويبر) فعلاً؟ لقد مات عويبر في نهاية الأمر بين جدران قصر سيده! وكان عبوره لسماء الحرية معنويا ونفسيا على أي حال, ولم يكن حقيقياً!
وأعتقد أن الكاتب هنا قد تعمد أن يجعل « الزمان والمكان» في روايته هذه مبهما إلى حد كبير، كي يتسنى له أن يضفي على عمله قدراً كبيراً من الخيال, لاعتقاده بأن (الواقعية) ربما تحد من تصرفه في تقنيات السرد, ومن استفاضته في تسريح ذهنه عبر خيال الفضاء الروائي الواسع وغير المحدد. وهذا ما أشار إليه الكاتب في قوله على لسان الراوية « ريمية/ راوية القصة» في الفصل الأول من الرواية:
«... ولأعرفكم على نفسي أكثر، فأنا( ريمية، ابنة التابع (سويبق) والتابعة (تيهة) وأخت التابع (عويبر), والأخت الكبرى لـ (شويخة), والذين ستسمعون عنهم كثيرا في مجريات هذه الحكاية الحقيقية التي تعمدت أن لا أذكر مكانها، ولا زمانها, ولا أن أحدد مسمياتها وألقابها. ببساطة لان مكانها يمكن أن يكون أي قطعة أرض ... ولأن زمانها كوني يمكن أن ينطبق على كل الأزمنة..».