تقديم المترجم: هنا ترجمة لدراسة بقلم البروفيسور دانيال كريسيليس، أستاذ فخري لتاريخ الشرق الأوسط، قسم التاريخ، جامعة كاليفورنيا- لوس أنجلس (UCLA)؛ دكتوراه في التاريخ من جامعة برينستون. ونشرت الدراسة في شتاء 1966 في فصلية الشرق الأوسط (ذا ميدل إيست جورنال):
وخلف تلك المانشيتات الصحفية كان شيوخ الأزهر يشكون من وجود تمييز هائل ضد خريجي الأزهر من حيث الوظائف الحكومية، وأنه من المستحيل عليهم منافسة المحامين المتخرجين من الكليات الحكومية التي تُدرّس القانون الوضعي لشغل مناصب في النظام القانوني الموحد؛ لأنهم يجهلون الأسس الغربية للقانون المصري الحديث. وأكد الشيوخ أن المستقبل الوظيفي لخريجي الأزهر أصبح حالكاً. وقدمت الحكومة تنازلاً بسيطاً للعلماء عبر ضمان عدم فقد أي قاضٍ وقتها في نظام الشريعة وظيفته. ولتخفيف مخاوف الشيوخ أكد مجلس قيادة الثورة أن نظام الشريعة لم يلغ، ولكن جرى - ببساطة - دمجه واستيعابه في النظام القضائي الوطني حيث ستطبق أيضاً «مبادئ» الشريعة. ولكن أوضحت الحكومة أن عدد الوظائف سيقل كثيراً للأزهريين الذين يواصلون التركيز على الدراسات التقليدية فقط (أي الشريعة).
ومع أزمة تناقص فرص العمل لخريجي الأزهر كخلفية قرر القادة العسكريون استكمال دمج التسلسل الهرمي الديني في النظام الثوري من خلال إنهاء استقلال الأزهر نفسه. وكان مجلس قيادة الثورة قد بدأ هذه الحملة لتخريب استقلال الأزهر في الأيام الأولى للثورة من خلال التنسيق مع شيوخ متعاونين؛ ليعملوا كقنوات لنقل سياسة الحكومة إلى الأزهر، ولكن موقف المجلس الحساس وقتها دعاه لاتخاذ نهج حذر مع معقل التقليد الإسلامي.
وبالرغم من وجود بيانات ضئيلة عن الصراعات الشخصية والمؤسسية بين رجال الثورة وعلماء الأزهر بسبب الضغط الشعبي على العلماء ليدعموا الثورة إلا أنه يمكن معرفة بعض المؤشرات على شدة الصراع داخل الأزهر مثل:
(أ) كثرة الاستقالات المقدمة من علماء كبار احتجاجاً على تدخُّل الحكومة في الشؤون الدينية.
(ب) مقاومة الشيوخ السلبية الناجحة ضد «الإصلاح» أو «الهيمنة» لدرجة أن ممثلي الحكومة داخل الأزهر وجدوا أنه من المستحيل أن يعملوا مع الشيوخ، ما أدى لتأخير الإصلاح سنوات عدة.
(ج) التعاقب السريع للقادة العسكريين المعينين لإدارة الأزهر.
واستمرت محاولة بعض كبار القادة الثوريين لتخريب استقلال الأزهر سنوات، وأدت لصراعات شخصية عنيفة بالفعل داخل الأزهر. وبالرغم من أن مسيرة الإصلاح تأخرت جدياً بسبب مقاومة العلماء إلا أن نتيجتها النهائية لم تكن موضع شك. فقد كانت شروط الاستسلام فقط هي التي يتم الاتفاق عليها. وبعد المثال الذي يدل على صلابة رجال الثورة المتمثل في سحق جماعة الإخوان المسلمين أصبحت الحكومة قادرة دائمًا على الاعتماد على دعم الأزهر العلني والرسمي لبرامجها الثورية، ولكن تعاقب الجنرالات المعينين كمديرين لشؤون الأزهر لم يكن قادراً على التغلب على شكوك العلماء التقليدية تجاه الإصلاح أو التدخل الحكومي في الشؤون الداخلية للأزهر.
فقد تم تعيين ثلاثة جنرالات وعالم أزهري مستنير لإدارة الأزهر، وتأسيس علاقة عمل مُرضية مع شيوخ الأزهر المحافظين:
(1) الجنرال كمال الدين رفعت (11 فبراير 1959-23 أكتوبر 1959).
(2) الجنرال أحمد عبد الله طعيمة (24 أكتوبر 1959- 17 أكتوبر 1961).
(3) الجنرال حسين الشافعي (18 أكتوبر 1961- 23 أكتوبر 1962).
(4) الشيخ الدكتور محمد البهي (29 أكتوبر 1962-25 مارس 1964).
ولكنهم فشلوا جميعاً في خلق علاقة عمل مرضية مع شيوخ الأزهر المحافظين. (14) ولكون الشيوخ يفتقرون إلى أي أساس لمعارضة الثورة أحبطوا مؤقتاً برامج الحكومة للأزهر ببساطة عن طريق «عدم تعاونهم» مع المديرين العسكريين المعينين. وأدت هذه الصراعات الشخصية في حالات قصوى إلى زيادة استقالات شيوخ رفيعي المستوى، فضلوا هذا المسار على «عار» وجودهم أثناء إنهاء استقلال الأزهر قسراً. ولكن هذه الاستراتيجية لم تستطع تغيير مجرى الأحداث، ولكنها عطلته فقط. واستغلت الحكومة هذه الاستقالات لتعيين أساتذة ليبراليين حاصلين على دكتوراه من الغرب في تلك الوظائف الشاغرة المهمة. ورغم كون العقبات التي تحول دون الإصلاح تتم إزالتها ببطء إلا أن الحكومة كانت تتحرك بحذر؛ لأنها تعلم جيداً أن أي هجوم عنيف ضد الأزهر سوف يفسَّر على أنه هجوم ضد الدين نفسه.
لقد سعت الحكومة للتعاون مع قليل من مشايخ الأزهر التقدميين الذين رغبوا في الإصلاح حتى على حساب استقلال الأزهر نظراً لإيمانهم بأن إصلاح الأزهر يتطلب تغييرات كبيرة لا يمكن تنفيذها إلا قسراً، أي عبر الحكومة. (15) وكان أبرز هؤلاء الشيوخ الدكتور محمد البهي، المتعلم في ألمانيا، الذي رُقي لاحقاً إلى منصب وزير الأوقاف ومدير شؤون الأزهر. وهو الآن (1966) أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة. لقد مهد الدكتور البهي للإصلاح في الأزهر بعدما جمع حوله مجموعة من الإداريين الذين يرغبون مثله في الإصلاح، وعبر ترؤس عملية إقرار تشريعات أساسية، وضعت الأساس لإعادة تنظيم شاملة للأزهر. وانفجر نصف قرن من الإصلاح الديني المتأخر للأزهر أخيراً على تلك المؤسسة في صيف عام 1961، وجرف الماضي الميت، ولكن ترك الأسس لإقامة أزهر جديد. وتم الإعلان في يونيو 1961 عن إعادة تنظيم شامل لهذه المؤسسة الإسلامية العظيمة التي سعت لها الحكومة لسنوات عديدة.
يتبع
** **
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى
hamad.aleisa@gmail.com