د. عبدالحق عزوزي
منذ سنتين، كانت قد نظمت رابطة العالم الإسلامي، بمشاركة: «الهيئة العالمية للعلماء المسلمين» مؤتمرًا قيمًا بعنوان: «الإسلام رسالة سلام واعتدال» في إطار ما تضطلع به المؤسسة من عملٍ إسلاميٍّ هادف، وكان قذ نظم المؤتمر على هامش فريضةَ الحَجّ التي تحمِلُ في مضامينها كما جاء على لسان أمينها العام دُرُوساً عديدةً في طليعتها التنبيهُ على أهميّة اتفاق الكلمة، ووحدة الصف، تحتَ شعارٍ واسمٍ ووصفٍ واحدٍ هو الإسلامُ، مع نبذ الفُرقة والخلاف المَذمُوم، وتجاوز الشِّعارات والمفاهيم والأسماء والأوصاف الضيقة التي تُفرِّق ولا تَجْمع وتُباعِدُ ولا تُقَرِّبُ، وأن مناعة الأمة تَقْوَى بتماسُك لُحمتها، وأن على علماء الإسلام الحذرَ من مخاطر التصنيف والإقصاء، وأن مُرْتَجَلاتِها هي مادةُ التطرف وبيئة التَّكفير.
وكان قد حذَّر المجتمعون في أحد البنود من مُخالفة المنهج الحق في أدب الدعوة والحوار والنصح، مُنبهين على خُطورة مُرْتَجَلِ المقالات والبيانات والعبارات التي تَصِمُ أبناءَ الإسلام في سَدَادِ مذاهبهم ومناهجهم بكلمة السوء بما لا طائل من ورائه سوى التحريش بين المسلمين والتنابز بينهم بالتبديع والتضليل والتكفير، وأن المُتعين هو الأخذ على أيدي أصحابها بوصفهم وَقودَ الفتنة والفُرقة ومحرضي السفهاء والجهلة على سلوك جادة التطرف بذلكم التعدي والارتجال، وأن الحريات التي أقرتها الشريعة لها نظام يحمي من التطاول والفرية وزرع الشر والفتنة.
وسريا على هذا النهج الحكيم في تنظيم مؤتمرات عالمية جامعة وهادفة، تنظم الرابطة في الأيام المقبلة مؤتمرها حول قيم الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنة وذلك في مكة المكرمة. ولا جرم أن الوسطية هي الملاذ الذي عليه مستقبل الشعوب والأوطان.. ومن هنا دعوات التذكير بضرورة هذا المفهوم في مجتمعاتنا العربية... فالوسطية منهاج وميزان للحياة السليمة، وبها تجذر قواعد الانتماء الحضاري وأبجديات التنمية، فالوسطية تتصل بالإسلام نفسه من حيث هو دين الفطرة الذي يساير خلقة الإنسان واستعداده والالتزام به {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم الآية 30)؛ كما أن سمة الوسطية والاعتدال تكمن في الآية الكريمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (سورة البقرة الآية 142)، والوسط هو الخير والأفضل لأنه يقع بين صفتين ذميمتين: التفريط والإفراط والتحلل والغلو (خير الأمور أوسطها) رواه الديلمي.
كما أن ديننا يدعو إلى اليسر والسهولة والابتعاد عن التشدد والتطرف {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة الآية 185)، (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فشددوا وقاربوا وابشروا) أخرجه البخاري والنسائي، (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه احمد والنسائي.
كما أن ديننا الوسطي يمؤسس للسلوك الذي ينبغي أن يكون مهذباً ليناً قائماً على الفضائل والمكارم وحسن الأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أخرجه مالك في الموطأ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (سورة فصلت الآية 34).
وبذلك كله فالإسلام يدين في منطلقه التعصب كيفما كان جنسيًا أو دينيًا ويضع الإنسان من حيث هو في مكانة التكريم بأن جعله في ذاته عزيزًا ومتميزًا عن سائر المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء الآية 70). كما أنه يدعو إلى التجمع وإلى التعايش والتساكن والتعاون وتبادل المصالح والمنافع أو ما جمعه من قيمة التعارف من غير أي تمييز إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات آية 13).
وفي هذه الدعوة إلى التعارف يعد الإسلام أن الاختلاف كامن في طبيعة الكون وسنة الخلق، وهو آية يظهرها الله سبحانه وتعالى في جميع مخلوقاته ابتلاء لها. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم -22)، {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} (المائدة -48).
ويبدو أن هذا الابتلاء الإلهي يتجلى في أمور أهمها اثنان:
أولهما: تبادل الأخذ والعطاء.
الثاني: التعاون والتآزر، وللحديث بقية.