أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد أجهدت نفسي على أن أنغمس في فرقعة الماضي العتيق السحيق؛ وأن أتطرب بشيء من الفن، ولهو الأدباء فيما أكتبه لا فيما أقرؤه؛ وهذا المنحى ظاهرة من ظواهر الغربة الفكرية، يتسلى بها المغترب، أو هو نزعة من نزعات السلوك الرومانسي.. وأعظم الرومانسيين اصطلاماً لا يخلو من صحوات فكرية تلامس بها كبد الواقع؛ فلتكن هذه الأحرف صحوة من صحوات الرومانسيين تلامس وعينا السياسي الواقعي الخائب.. إني أسميه (وعينا) بالنسبة لاعتقاد أشباه المثقفين في مختلف الرقعة الإسلامية والعربية؛ ولقد بدأ هذا الوعي السياسي الخائب منذ إعلان الدستور العثماني في عهد السلطان (عبدالحميد) -رحمه الله تعالى- منذ عام 1908 ميلادياً [1326هجرياً]؛ وأصبح هذا الوعي القزم قمةً عملاقاً في أزهى عهود (جمال عبدالناصر) عفا الله عنه؛ ومنذ عهد النكسة (نكسة حزيران) أصبح هذا الوعي شعوراً رخواً في نفوس الشبيبة: إما يائساً في انتصاره، ويائساً في جمال آخر يفرض واقعه، وإما حيرة في التماس البديل الصحيح؛ ولقد ازداد الذين آمنوا إيماناً صارخاً من الشيوخ القارحين الذين كفروا بهذا الوعي السياسي الجبان، وتحملوا مضايقات مجتمعهم الذي هو السلطة الحاكمة يوم كان لذلك الوعي منبر وخطيب تتراقص له أمواج الأثير في مختلف الرقعة العربية؛ ولعلي أرصد عناصر ذلك الوعي المهزوم منذ عهد الدستور العثماني إلى عهد (نكسة حزيران) منذ ميلاد الجامعة العربية للقضاء على فكرة (الجامعة الإسلامية)! وأصبح التعامل مع العالم الإسلامي محكوماً بمنافع تحليلية لا بمبادئ إسلامية مثلما نتعامل مع العالم الشرقي والغربي غير المسلم تعاملاً نفعياً؛ ولم يكن من المحذور وجود تجمعات إسلامية؛ لأنها ليست على مستوى رؤساء الدول؛ ولأنها من أجل امتصاص غضب الجماهير الإسلامية.
قال أبو عبدالرحمن: بعض الكراسي لا تخلو من مشبوه، وكثيراً ما أمتعنا (آل قطب) بقضايا (إسلام أمريكي)، بل نقل عن رئيس دولة إسرائيل آنذاك (إسحاق بن زفي) في كتابه (الدونمة) التعبير بكل وقاحة عن (طائفة مسلمة يهودية)!!.. يعني الماسونيين من بلاد العالم العربي والإسلامي الذين لا يعلمون أنهم ماسونيون.. وهناك سيادة المنطق التحليلي، والتسلط عليه بالمنطق الأيديولوجي المستورد؛ ليغرق بين التيارين الوجود الإسلامي؛ وبالمنطلق التحليلي سادت فكرة القومية العربية، وقدسية الرقعة العربية، وتمجيد العرق العربي، والإشادة بموهبته، وكفاءاته، وتفوقه.. وتطاول بعض صعاليك القومية بمحاكمة كلام رب العالمين، وتفسيرات أحبار الأمة وعلمائها؛ وسعوا إلى نفي فكرة (الجاهلية)؛ أي جاهلية العرب الأولى؛ ونشطت فكرة تيسير الثقافة؛ لاستحياء تراث العرب ونشره مباهاة لتراث القوميات الأخرى.
قال أبوعبدالرحمن: وتخصص الباحثون في الإشادة بالحضارة العربية، وسبقها للتحلل من تعيير العدو الغالب؛ وكثير من عناصر هذا المنطق التحليلي يقره الوجود الإسلامي، ويشجع عليه؛ ولكن من منطق (الفكر الإسلامي، وخدمته وتكريم حملته)؛ أي بمعنى أن هذه العناصر التحليلية عرض لا كيان؛ والفكرة القومية أحلى الأمرين بالنسبة للعدو؛ لأنها حصر للتاريخ العربي في العرق العربي، والرقعة العربية كيفيات قوميات الأرض؛ ولهذا حصر الطموح العربي في الدفاع عن الوجود؛ وهو طموح لا يقنع به التاريخ العربي بالشرط الإسلامي؛ لأن فكرة القومية تستأمن في أخص سرياتها الأخ العربي المزعوم من أمثال قتلة الفدائيين في لبنان، وعلى الرغم من هذا كله: فإن القومية العربية دون معارض خطر على العدو؛ لأن الحماس للقومية هو حال (السكرة)، واستقرارها هو حال (الفكرة)، إذ لا يؤمن أن يرجع القومي إلى شرط وجوده وهو الفكرة الإسلامية؛ ولا سيما أن الرقعة العربية الكبيرة منحة إسلامية؛ وغابر القومي العربي الذي يعتز به إنما هو تاريخ إسلامي؛ بل إن حالة الفكرة هذه هي ما بشر به (جمال عبدالناصر) عندما أعلن (وحدة الصف قبل وحدة الهدف!!) في تسويقه شعارات القومية.. إنه لهذا الخطر الذي يتوقعه العدو من (صحوة القومي): ضرب للوجود القومي بالمبادئ الأيديولوجية المستوردة كالشيوعية وأخواتها، وأحزاب ومجمعات الإسلام الأمريكاني، والطوائف الإسلامية التي لم يكن لها دولة تاريخية يعتز بها القومي العربي.. ولا يحصي إلا الله الزعامات الخيرة التي صفيت في حمي هذه التيارات، والدماء التي أريقت، وموارد الرزق التي ضيعت؛ وقد كادت الساحة تخلو من ثقل الزعامة الموزونة!
قال أبوعبدالرحمن: معاداة الوجود العربي الباسل بالشرط الإسلامي المعصوم، وتحريف مفهومه، وتشويه تاريخه: أمر للأسف تساوى فيه القومي العربي النزيه المخلص، والصليبي، واليهودي، والطائفي، والعلماني.. إلا أن الأول غبي مخدوع، والآخرين أذكياء مضللون؛ فالنصراني (جورجي زيدان) مثلاً يزعم أن إمام المسلمين في عهد (صلاح الدين الأيوبي) كان يدا ماسونية!!.. وهكذا تعاطف النزيهون مع الشاعر (مطران)، وشعراء المهجر في تشويه الخلافة الإسلامية متذرعين من منطلق قومي بعجمة العثمانيين، وضعفهم، وأنهم سبب تخلف العالم العربي.. فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.