قال تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أي: شهر رمضان أيام قليلة ومحددة.. ما أسرعك يا رمضان.. شهر رمضان لِمَ هذه العجلة؟ فالنفس تواقة، لم تشبع من مشاعرك الروحانية، ولم تملّ من علو المآذن بتلك الأصوات العذبة، ولم يكتفِ النظر من تلك المساجد المزدحمة بالمصلين، ولم تغلق أبواب المنازل لجمال تلك الزيارات الرمضانية مع أصوات الأطفال وانتظارهم أذان المغرب مرددين بكل فرح وسعادة: أذّن، أذّن.. ولم نكتفِ بعد من روائحك العطرة المليئة بجميع الأماكن.
شهر رمضان هو شهر الخير والغفران، والعتق من النيران.. فعندما أكتب عن هذا الشهر الفضيل فأنا أكتب عن الزمن الجميل، وعن تلك الذكريات العالقة بأذهاننا، وعن تلك الأماكن والرحلات القابعة في قلوبنا قبل عقولنا.. عندما أكتب عن رمضان فأنا أبحر في أعماق ذلك البحر؛ ليصبح قلمي عاجزًا عن وصفه؛ لما ميزه الله سبحانه وتعالى بنزول كتابه الكريم، وزيادة في العبادات والتخلي عن العادات. بالأمس كنا نعد الأيام والدقائق، ونتمتم بذكرك يا رمضان، ونحكي عنك بمشاعر تشبه مشاعر الفرج بعد الصبر، ونترقب دخولك.. واليوم يذهب الثلث الأول، وينتصف الثلث الثاني الذي شارف على الانتهاء؛ لتبدأ أجمل الأيام، ألا وهي العشر الأواخر. فهل أدركنا رمضان فيما مضى؟! أم هناك متسع من الوقت لإدراكه فيما تبقى؟!
أخبرت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» رواه مسلم. لذلك شمروا عن سواعدكم، واجتهدوا، واجعلوا شهر رمضان مدرسة للدروس الأخلاقية لتعليم أبنائنا العبادات، وكيف يسعون لفعل الخيرات، كالصدقة والزكاة.. بالمشاهدة والتقليد، ثم بالتشجيع؛ ليصبحوا قدوة لمن حولهم، ويعكسوا ذلك الأثر الناتج من الترغيب دون الترهيب.
اجتنبوا كل من يسعى لإفساد مقاصد رمضان، كوسائل الإعلام المختلفة (المقروءة، المسموعة والمرئية)، واسعوا لصد تلك القنوات، واستبدالها بكل ما يعود بالنفع والفائدة على أبنائنا.. استشعروا نعم الله تعالى التي لا تُعد ولا تُحصى بأن أكرمنا ببلوغ شهر رمضان، واستشعروا نعم الطعام والشراب وما يكابده الفقير للحصول على رغيف يومه. اجتنبوا حصر الطاعات في شهر رمضان فقط، ولتكن في جميع الأيام والشهور؛ لتذوقوا ثمرات هذه الطاعات في الدنيا والآخرة.. اجعلوا رمضان فرصة للرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والتوبة من كل ما اقترفته النفس؛ فالصيام ليس فقط عن الطعام والشراب، بل هو أيضًا صيام الجوارح عن الغيبة والنميمة والزنا وسماع الأغاني.. فلا معنى لرمضان إذا لم يكن به تأديب للنفس وصلاح للقلب. اجعلوا رمضان بداية للتغيير الذاتي، ولينتهِ هذا الشهر الكريم ونحن متسامحون مع مَن أخطأنا بحقهم؛ لننمي قيمنا الإسلامية.
لنجتهد في هذه العشر الأواخر من رمضان التي هي خير من ألف شهر، ولا نغفل عنها ونتجاهلها في مغريات هذه الدنيا.. ولنتسابق على إدراكه هذا العام؛ فلا نعلم هل سندركه العام القادم أم سنصبح في عداد الراحلين.. ولنكن من الذين يدخلون من باب الريان بغير حساب ولا سابق عذاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «للصائمين باب في الجنة يقال له الريان، لا يدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أُغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا» رواه البخاري.