1. كمال أدب عيسى عليه السلام قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لما كان المقام مقام توبيخ، وموافقة لله في غضبه، لا مقام استعطاف لم يقل: (الغفور الرحيم) بل قال: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: هم عبادك، وأنت أعلم بجرمهم، فلولا أنهم عبيد سوء لم تعذبهم. وإن غفرت لهم، فمغفرتك صادرة عن كمال عزة، وحكمة، لا عن عجز، أو سوء تصرف .
2. ومن مشاهد الذوق، قول موسى عليه السلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يقل: (أطعمني) تأدبًا مع العزيز سائلاً من فيضه ومنيخًا بفنائه.
3. وها هو نبي الله أيوب عليه السلام، يدعو ربه وقد أقعده المرض لسنوات: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فلم يستبد به الجزع، ولم تستولِ عليه الحيرة ولم تحرقه أنفاس الكرب، بل ظل ساكن النفس، وعبَّر عن تلك المواجع الشديدة والآلام الرهيبة بكلمة {مَسَّنِيَ} والمس: هو الإصابة الخفيفة مسطِّرًا ملحمةً في الأدب، فاض الأدب من هذا النبي الكريم حتى لم يصرح بالسؤال، بل اكتفى بتعظيم رحمة الله، ولم يقترح شيئًا على ربه تأدبًا وتوقيرًا؛ فعلم الله صدقه وصبره فرفع ذكره وشفاه وأعطاه... فتأمل الأدب كيف يبلغ منتهاه عند صفوة خلق الله!
4. ومن المشاهد اللطيفة ما فعله الصالحون من الجن عندما قالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجنّ:10]، قالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ} ما قالوا: (أشر أراده ربهم بهم أم أراد بهم ربهم رشدًا).. فجعلوا الفعل مبنيًا لما لم يُسمَّ فاعله تأدبًا مع الله عزّ وجلّ.
5. وآدم عليه السلام لمّا أٌهبط من الجنة إلى الأرض قال: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فتحمل المسؤولية ولم يقل: (ربِّ قدرت علي هذه المعصية وقضيت عليَّ بها).. ونحو ذلك ، بل نسب الظلم إلى نفسه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}.
6. وصف عز وجل وصف أدب النبي الكريم محمد فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (17 سورة النجم)، وزاغ البصر بمعنى انحرف وطغى بمعنى تجاوز، فأدبه يتجلَّى في نظره؛ فلم يلتفت جانبًا ولم يتجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب. ومن الإخلال بالأدب أن ينظر المرء عن يمينه وعن شماله خاصة إذا كان المكان جديدًا لم تألفه العين وذا تفاصيل عجيبة!