كانَ الدُّكتور لايمن بيتشر يَقولُ: (لا يَموتُ المَرءُ مِن الجِدِّ في العَمَلِ ولكِنَّهُ يَموتُ مِن الهَمِّ والقَلَقِ، كما أنَّ الآلَةَ لا تُؤذيها الحَرَكَةُ ولَكِن يُبليها الاحتِكاكُ ويُلحِقُ بها ضَرَرا عَظيمًا). ومِمَّا لا رَيبَ فيهِ أنَّ النائِباتِ والشَّدائِدَ الجِسيمَةَ لا تَقوَى على تَعكيرِ صَفاءِ الحَياةِ، بقَدرِ الأكدارِ والمَخاوِفِ والوَساوِسِ الطَّفيفَةِ الَّتي تُلِمُّ بالمَرءِ مِن يَوْمٍ إلى يَوْمٍ؛ فتُنَغِّصَ عَيْشَهُ وتَهدِمُ دَعائِمَ تَوازُنَهُ العَقْلِيّ.
وقَد كَتَبَ الدُّكتور الشَّهير (جورج جاكوبي) وهو مِن جَهابِذَةِ العُلماءِ في عِلمِ الأعصابِ عن فِعلِ القلَقِ فقال: إنَّ عَدَدَ ضَحايا الهَمِّ في القَرنِ الأخيرِ فاقَ آلافَ القَتلَى في ساحاتِ الوَغى. وإنَّ أدهَشَ ما تَوَصَّلَ إليه عِلمُ الأعْصابِ في الآونَةِ الأخيرَةِ إثباتُهُ أنَّ القَلَقَ قِتالٌ مُودٍ بالحياةِ. ومَباحِثُ الأطِبَّاءِ لم تَقِفْ عِنْدَ هذا الحَدِّ فحَسْبْ، بل إنَّها اختَرَقَت الحُجُبَ الَّتي كانت تَكتَنِفُ هذا العارِضَ وأماطَتْ اللثامَ عن غَوامِضِهِ ودَقائِقِهِ، فأظهَرَتْ أنَّ كثيرًا مِن الوَفياتِ المَنسوبَةِ إلى أسبابٍ شَتَّى ناشِئَةٍ في الحقيقَةِ عن القَلَقِ واضطِرابِ الأفكارِ.
فالقَلَقُ يَفعَلُ فِعلَهُ الذَّريعَ في خَلايا الدِّماغِ الحَيَوِيَّةِ مُشَبِّهًا نُقَطَ الماءِ المُتَساقِطَةَ على بُقعَةٍ واحِدَةٍ لا تَتَعَدَّاها، فإنَّها مع صِغَرِها وضَعفِها إذا وَقَعَتْ على الصَّخْرِ الأَصَمِّ لا تَلبَثُ أنْ تَشُقَّهُ وتفريهِ، فلا عَجَبَ إذا كانَ التَّفكيرُ المُؤلِمُ المُستَمِرُّ المُنحَصِرُ في مَوضوعٍ واحِدٍ مُتْلِفًا لخَلايا الدِّماغِ، مُقَوِّضًا لبُنيانِهِ الليِّنِ الهَشِّ.
وفِعلُ القَلَقِ ميكانيكِيَّا هو كَذَلِكَ أَشبَهُ بفِعلِ مِطرَقَةٍ صَغيرَةٍ لا تَزالُ دائمًا أبدًا تَهوَي على الدِّماغِ ضَربًا حتَّى تَتَمَزَّقَ أغشِيَتُهُ ويَختَلُّ نِظامُهُ؛ فتُتَيُّمُ العاشِقِ، وَهَمُّ المضطَرِبِ وحُزنُ الحَزين، ما لم يَبذُلْ هؤلاء الجُهدَ العَظيمَ في مُكافَحَتِها، تُصبِحُ كالمِطرَقَةِ المُشار إليها فلا تَلبَثْ أنْ تَدُكَّ أركانَ الدِّماغِ وتَذهَبُ بالرُّشدِ وتَقْضِي إِلَى اخْتِلَاطِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِهِ.
وَقَدْ أَظْهَرَ الْبَحْثُ أَنَّ الْقَلَقَ وَالْغَمَّ وَالْفِكْرَ الرَّاسِخَ الْمُلَازِمَ تَنْتَابُ الْمُصَابَ بِهَا حَتَّى لَا يَجِدَ لِنَفْسِهِ مِنْهَا إِلَى الْخَلَاصِ سَبِيلًا. ثُمَّ إِنَّهَا لَابُدَّ بِتَتَابُعِ وُقُوعِهَا وَمُعَاوَدَتِهَا مِنْ أَنْ تَهْدِمَ جُزْءًا وَلَوْ يَسِيرًا مِنْ خَلِيَّاتِ الدِّمَاغِ، إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْأَفْكَارِ الْمُزْعِجَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ تُخَالِجُهُ وَتُسَاوِرُهُ. وَلَمَّا كَانَتْ أَجْزَاءُ الدِّمَاغِ مُتَّصِلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْأَلْيَافِ اتِّصَالًا مُحْكَمًا، كَانَ مِنَ الْمُتَحَتَّمِ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْفَسَادُ مِنَ الْجُزْءِ الْمُصَابِ إِلَى سَائِرِ جَوَانِبِ الدِّمَاغِ وَأَثْنَائِهِ.
وَالْقَلَقُ بِحَدِّ ذَاتِهِ شَبِيهٌ بِالْوَسْوَاسِ، وَلَيْسَ مِنْ حَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ أُخْرَى أَوْخَمَ عَاقِبَةً وَأَفْدَحَ ضَرَرًا بِالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ نُمُوُّ نَفْسِيَّتِهِ وَسَعَادَتِهِ وَنَشَاطِهِ مِنَ الْقَلَقِ وَشَرِيكِهِ الِانْكِسَارِ.
وَطِبُّ هَذِهِ الْعِلَّةِ هُوَ تَوْطِيدُ الْعَزِيمَةِ عَلَى طَرْحِ الْفِكْرِ الْمُقْلِقِ جَانِبًا وَتَنَاسِيهِ وَتَرْوِيحِ الْبَالِ وَتَسْلِيَتِهِ. وَعَلَى الْمَرْءِ مَتَّى شَعَرَ بِتَعَبٍ فِكْرِيٍّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِبْدَالِ عَمَلِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ يُطْلِقُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عِقَالِ الضَّجَرِ وَالسَّآمَةِ؛ لِأَنَّ التَّسَلِّيَ هُوَ أَعْدَى أَعْدَاء القَلَقِ وأنجَحُ دواءٍ يُعالَجُ بهِ.
ولا مِراءَ أنَّنا إذا استَسْلَمْنا للهُمومِ والأكدارِ قَذَفْنا بأنفُسِنا قَرْنًا كامِلًا إلى الوَراءِ، وتَراجَعْنا إلى عَصرِ الآلةِ البُخاريَّةِ في أوَّلِ عَهدِها، حينما لَم يَكُنْ مُستَعْمِلُها يَنتَفِعُ منها سِوَى بعُشْرِ ما يُنفِقُهُ عليها مِن وَقودٍ، فكانت القوَّةُ المُستَفادَةُ تُوازِي عَشرَةً في المائَةِ، والقُوَّةُ الذَّاهِبَةُ سُدَى تسعينَ في المائَةِ.
وكَثيرونَ هُمُ الأُلى يُشبِهونَ تلك الآلاتِ المَنبوذَةَ؛ إذ يُهدِرونَ قِسْمًا وَافِرًا مِن نَشاطِهم بالا ضْطِرابِ والانزِعاجِ والتَّذَمُّرِ والتَّشَكِّي، بينما نَرَى أُناسًا آخرينَ يَستَثمِرون جُلَّ قُوَاهم- إنْ لم يَكُنْ كُلُّها- فيما يَعودُ عَلَيْهِم بالخَيْرِ العَميمِ والنَّفعِ الجَزيلِ. فطوبَى لمَن تَعَلَّمَ أنْ يَحيا الحَياةَ الهَنيئَةَ المُثلَى، فاستَفادَ مِن كُلِّ ما أوتِيَ مِن نَشاطٍ وقُوَّةٍ، ولمْ يُبَدِّدْ شَيئًا مِن مَواهِبِهِ فيما لا يُجْديهِ نَفعًا.
قال شَيْخٌ لأولادِهِ، وقد أَدرَكَتْهُ الوَفاةُ: «اعلَموا يا بَنِيَّ أنَّهُ قد خامَرَتْني في أثناءِ حَياتي مَخاوِفُ جَمَّةٌ لم يَتَحَقَّقْ إلَّا النَّزْرُ اليَسيرُ مِنْها».
وحدَّث تاجرٌ وجيهٌ عن أبيهِ قال: كان أبي مُدَّةَ عشرين سَنَةً يوجِسُ خيفَةً مِن حُدوثِ شَرٍّ لم يَقَعْ أبَدًا.
فكثيرًا ما نَتَوَقَّعُ حَوادِثَ الحَياةِ ونَبتَسِرُها ابتِسارًا بَدَلًا مِن إرجائِها لأَوانِها واجتِزائِنا بشؤونِ اليَومِ الَّذي نَحنُ فيهِ. فمَهامُ اليَومِ قَلَّما يَتَأَتَّى عنها عَظيمُ ضَنى، ولَكِنْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ المُبالاةُ بأُمورِ المُستَقبَلِ الَّتي تُضنِكُ العَقلَ وتوهِنُ الجَسَدَ. فإنَّما هي مَشاغِلُ الغَدِ والأُسبوعِ القادِمِ والعامِ المُقبِلِ الَّتي تُشَيِّبُ الرُّؤوسَ وتُجَعِّدَ الوُجوهَ وتُحني الأجسامَ وتُنهِكَ القُوَى.
** **
- إبراهيم ذادا