د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الربيع تورق الأشجار، وتتفتح الأزهار، وتتأهب للإثمار، وتتساقط زخات المطر، كأنها عقد لؤلؤ انفرط فانتشر، والنفس كالطير يقع حيثما يوجد الحب، فينال مراده كل ذي لب.
في الربيع ينعم الناس بشم النسيم، والتمتع بالجداول، والماء ينساب مختالاً يبحث عن شجرة تريد رياً، وإنساناً أو غيره من المخلوقات يطمح إلى سقيا، فترتاح الأنفس، وتهنأ القلوب، ويطيب العيش، وتتفتح الآمال.
هناك موسم آخر من مواسم الإسعاد، يعود عاماً بعد عام، وهو موسم العشر الأواخر من رمضان، حيث يأنس المسلمون بحلوله، طمعاً في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية.
النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي، والنفس يعتريها بين الفنية والأخرى شيء من الغبش، وهذا موسم لإزالته، وموسم لمراجعة النفس، والنظر بعين البصيرة إلى بعض من الأخطاء أو التصرفات غير المفيدة لإزالتها عن كاهل من يريد الاستفادة من هذا الموسم الجميل، موسم تطهير النفس من الدرن في العلاقات مع الحي القيوم، أو مع إخوانه من البشر، أو طريقة تعامله مع مخلوقات الله أخرى، وكذلك كيفية الاستفادة من نعم الله الظاهرة والباطنة.
بالحب يعيش المرء بين الأمل والرجاء، والخوف من حجب العطاء، ولأجل الحب يكثر المرء العمل بقلب صادق رجاء القبول، فما بالك بحب ربٍ كريم، قادرٍ عظيم، ليس لعطائه حدود، دون منًّة أو قيود، يعفو عن الخطأ مهما عظم، إذا صدقت النية، وطاب العمل.
يجتمع المسلمون في المساجد، ويفد إلى الحرمين الشريفين الملايين، طمعاً فيما عند الله، وتقرباً إليه، رجاء قبول دعوة صادقة، بقلوب تائقة، وسهام ليل تنطلق إلى السماء، خوفاً ورجاء، ورغبة فيما عند صاحب العطاء، يأتي المسلمون إلى الحرمين تجمعهم كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا فرق هنا بين عربي وغير عربي، أو لون وآخر، تختلف الأعراق والألوان واللغات ويتحد الجميع في توجههم إلى البارئ الكريم، وهكذا بني البشر خلقوا من أصل واحد، وعليهم أن يعيشوا هكذا، وأن تكون المحبة والرأفة تحتل سويداء القلوب.
في العشر الأواخر من رمضان، يطمع المرء في المزيد من قراءة القرآن، والتبتل إلى الله الخالق الديان، ويكثر القيام في أوائل الليل وأواخرها، لعل ساعة من تلك الساعات توافق ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن الله.
تمر هذه الليالي مر السحاب السريع، وتتسابق زخات المطر، مطر الرحمة إن شاء الله، لتنبيه قلوب غافلة، أو نفوس حاقدة حاسدة، لتثوب إلى رشدها وتتصالح مع غيرها، مما زرعته الأيام من خلاف أو اختلاف بسبب مادي أو معنوي.
هناك من قد تنازع مع أحد على أرض أو مال، أو إرث أو خلافه، وهناك من أخطأ في حق آخر بالقول أو العمل، وهناك من ظلم، وقطع رحماً، فها هو موسم التسامح الفعلي وإزالة كل العوائق النفسية التي تحول دون الإقدام على التسامح والعفو والتنازل من كلا الطرفين لتكون بداية جديدة لحياة جديدة يعيشها للطرفين في خير ووئام.
موسم العشر الأوآخر من رمضان، موسم اجتهاد في العبادة تلمساً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ليلة تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن رب كريم، لطيف خبير، وهي ليلة سلام هي حتى مطلع الفجر، لهذا فإن تلمس الخير يتطلب الاجتهاد، وتكون توجيهها إلى نهج دائم في جميع الأحوال.
إن الوصول إلى أي غاية يستوجب الاجتهاد، والإخلاص والإتقان، ويكون الإتقان بالتبصر، واليقين بأن الله سوف يعطي كل مجتهد، وأنه لن يخيب رجاء من صدق في رجائه، واجتهد في عطائه، وتلمس سبل الخير، ونزع من قلبه أغلال الحسد والحقد والكره، وأثر العطاء والسخاء والبذل، في سبيل إسعاد الآخرين، فلا ألذ من إدخال الفرحة على نفس قد اعتراها هم من هموم الدنيا، أو أصابها طرف مؤلم من لياليها المدلهمة بالظلام.
يقول الله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} إنها ترمز إلى السلام بين القلب وزرع الحب، ترمز إلى السلام بين الأسرة الواحدة، والمجتمع، ترمز إلى السلام بين الجيران والمعارف، ترمز إلى السلام بين الدول، وترمز إلى الجنوح نحو السلم، دون تفرقة، وترمز إلى البعد عن القتل بغير حق، كما تمارسه أداة الإرهاب البشرية، التي تلبس لباس الدين، وهي أبعد عنه من الثقب الأسود، تلك الفئة التي تدعي الإسلام كذباً، وكأنها لم تقرأ آياته التي تدعو إلى حفظ الأنفس والأموال والأعراض، فكم يتموا وأيموا، حمانا الله بني البشر من شرهم.