عبدالوهاب الفايز
في الفصل الجديد للصراع العربي الإيراني نرى الصورة الحية المتكررة للبراجماتية السياسية الأمريكية/ الغربية في التعامل مع الصراعات في العالم. لقد كانت المصالح تقتضي قبل ثلاثين عامًا إدخال المنطقة في حالة إنهاك اقتصادي مستمر لأجل إعادة تدوير العوائد النفطية، وهكذا شهدنا تقلبات الأوضاع السياسية، حيث تتالت حالة الحرب ثم فترة السلم، وهذه المتتالية منذ التاريخ البعيد أصبحت (نموذج تشغيل سياسي) يثمر عن ثلاثة أمور أساسية، نجحت في تحقيق الهيمنة والسيطرة السياسية والاقتصادية على الأقاليم الحيوية اقتصاديًّا للقوى الكبرى.
الثلاثة منتجات لحالة اللا حرب وحالة اللا سلم المعاصرة في الشرق الأوسط هي: أولا، تهجير رؤوس الأموال المستمر إلى البنوك والمؤسسات المالية الغربية، والثاني هو استمرار عقود التسلح طويلة المدى لأجل استدامة إنتاج مؤسسات الصناعات الحربية الغربية، والثالث إيجاد الظروف المالية التى تؤدي إلى الحاجة الماسة للاقتراض من المصارف الغربية ومن صندوق النقد الدولي. ويضاف إلى هذه وصية مغلفة بالذهب وهي الدعوة المستمرة إلى (خفض القطاع العام) وبيع الأصول للقطاع الخاص، (الذي لاحقًا يحولها إلى شركات مساهمة مفتوحة للملكية الأجنبية!)
وإنهاك الخصوم جزء رئيسي من حركة التاريخ، وفِي التاريخ الحديث أول من طبقه ببراعة الملكة إليزابيث الثانية (1533-1603م)، في إنجلترا، عندما رأت ضرورة مواجهة الإمبراطورية الإسبانية التي كانت تسعى إلى القضاء على إنجلترا الداعمة للبروتستانتية، فقد كان الملك الإسباني فيلب الثاني كاثوليكي وبحاجة إلى حرب مقدسة مبررة سياسيًّا واقتصاديًّا. لقد استخدمت إنجلترا الحرب الاقتصادية لاستنزاف إسبانيا، دفعتها إلى حروب جديدة تتطلب المزيد من الاقتراض، ثم إنهاك اقتصادي عبر رفع تكلفة الاقتراض من خلال تكليف البحرية لتقوم بدور القراصنة على خطوط الملاحة والتجارة.
إنهاك الخصوم عبر دفعهم للتصادم وإنهاك القوى حتى يكون المنتصر خاسرًا، فكرة عملية تعلمها الساسة من دروس التاريخ، ففي القرن العشرين مارست أمريكا هذه السياسة في الحرب العالمية الثانية فقد دعمت روسيا حتى لا ينتصر هتلر، حيث قدمت القروض والتزويد بمواد لتصنيع الطائرات. أيضًا قدمت 400 ألف سيارة نقل مكنت الجيش الروسي من الحركة السريعة لنقل الجنود والذخائر، وقد كان لها الأثر السريع في صمود الروس ضد الهجوم الألماني.
الشرق الأوسط، بالذات العمق العربي، ظل عبر التاريخ الطويل ضحية الجغرافيا السياسية وثراء الموارد البشرية والطبيعية، ومنذ عهد الرومان وحتى الحروب المعاصرة بقيت المطامع في ثرورات المنطقة هي المحرك الأساسي للصراعات وحروب المصالح التي تتخذ ذرائع شتى لتحقيق الأهداف والمطامع، والضحية لهذه الصراعات شعوب المنطقة التي بقيت لقرون تدفع الثمن الكبير وتتلقى المعاناة.
الآن هل نتوقع حالة حرب أم حالة سلام؟ كلا الأمرين وارد، ولعبة شد الحبال في المنطقة لن تنتهي، والأمر يتطلب دائمًا استثمار (الحكمة السياسية) للتعامل مع الأقوياء وحماية المصالح الوطنية، والملك عبدالعزيز، يرحمه الله، يقدم نموذجًا يُحتذى ويُتعلم منه للزعامة التي تمارس الحكمة السياسية في الأوقات الحرجة.
بهذه الحكمة استطاع أن يؤسس الدولة الحديثة وينجو بها من مطامع القوى العظمى، مستندًا إلى قوة الدعم الداخلي وتماسك الجبهة الداخلية، رغم أن القوة الاقتصادية للدولة الوليدة حينئذٍ لم تكن كما هي عليه الآن بلادنا، أي أننا الآن مسنودين بقوة سياسية وقوة اقتصادية، وهذا الضامن، بعد الله سبحانه، لأن نخرج من الأزمة الحالية والقادمة ونحن أكثر وحدة، وقد تعلمنا من المواقف ما يُثري الحكمة السياسية للتعامل مع تقلبات المصالح والمطامع للقوى الكبرى.
هذا هو قدرنا، فنحن في منطقة لن تنجو من صراع المصالح ومطامع الأقوياء، سواء منهم من يتظاهر بدور القوي الجبار، أو من هو يراقب بهدوء وحذر توجهات الأحداث؛ نفس المشهد يتكرر منذ قرون خلت!